لعبت مدرسة الإسكندرية اللاهوتية دورا مهما فى تثقيف العالم المسيحى خلال القرون الستة الأولى من انتشار المسيحية حتى قيل عنها إنها «عقل العالم المسيحى» ووصفها أحد المؤرخين بقوله: «كانت مدرسة الإسكندرية بلا شك أشهر معهد عقلى فى العالم المسيحى الأول». ومؤسس مدرسة الإسكندرية هو مارمرقس الرسول كاروز الديار المصرية الذى شعر بالحاجة الماسة لوجود مثل هذه المدرسة لمواجهة مدرسة الإسكندرية الوثنية ومكتبتها الشهيرة؛ ولقد بدأت المدرسة أولا لتعليم المسيحيين الأوائل مبادئ الإيمان المسيحى حتى تؤهلهم لقبول المعمودية؛ ولقد انقسمت الدراسة فى هذه المدرسة إلى ثلاثة مستويات أو مجموعات هى: المستوى الأول الطلاب الوثنيون الذين يفتشون عن الحق أين هو؟ ولم يهتدوا بعد إليه. المستوى الثانى هم الطلاب الوثنيون الذين آمنوا بالديانة المسيحية؛ ولكنهم لم يعتمدوا بعد وهؤلاء هم المعروفون فى المصطلح الكنسى ب«الموعوظين». المستوى الثالث هم الذين قبلوا الإيمان المسيحى واعتمدوا؛ ولكنهم يريدون أن يتعمقوا أكثر فى الديانة المسيحية؛ وهذا المستوى هو الذى يخرج منه القيادات الكنسية سواء كانوا أساقفة أو أساتذة فى المدرسة اللاهوتية. ولقد انقسمت الدراسة فى هذه المدرسة إلى ثلاث مراحل يمر بها الدارس ويتدرج فى طلب المعرفة؛ وهذه المراحل الثلاث هى: المرحلة الأولى ويهتم فيها الطالب بدراسة العلوم المختلفة من طب وهندسة وفلك. المرحلة الثانية ويهتم فيها الطالب بدراسة جميع المدارس الفلسفية المختلفة. المرحلة الثالثة والأخيرة ويهتم فيها الطالب بدراسة العلوم اللاهوتية المختلفة. وكان أسلوب التعليم فى المدرسة يقوم على طريقة السؤال والجواب؛ وكان هذا الأسلوب يقوم على المناقشة والحوار لا التلقين؛ فكان يطلب من الطالب أن يأتى بتعريف معين للفظ مثل «الخير» أو «الشر» أو «العدالة» ثم يصبح هذا التعريف موضوعا لدراسة أعمق مصوغة على طريقة السؤال والجواب؛ ومن خلال هذه المناقشات تتضح الاتجاهات الصحيحة وتنجلى الحقيقة. ولقد أخرجت هذه المدرسة مجموعة متميزة من معلمى المسيحية الكبار مثل القديس كليمندس السكندرى (150 215 م) والعلامة أوريجانوس (185 254م) حتى قال عنهم المؤرخ الألمانى هرناك: «إن كليمندس وأوريجانوس هما اللذان وضعا علم اللاهوت الكنسى ولاهوت العهدين القديم والجديد». وبصفة عامة نستطيع أن نلخص الدور الذى قامت به هذه المدرسة اللاهوتية فى النقاط التالية: استطاعت أن تروى ظمأ المسيحيين نحو المعرفة الدينية؛ وأوجدت فيهم روح البحث والاطلاع فى مجالات متنوعة. أوجدت قادة كنسيين روحيين مشهورين سواء فى الإسكندرية أو فى العالم؛ وكثير منهم صاروا بطاركة وأساقفة. استطاعت أن تجذب نفوسا كثيرة من مصر والخارج للمسيحية. أبرزت وعيا عاما عن أهمية التعليم كعنصر أساسى فى بناء الإنسان. ساهمت فى تقديم أول نظام للدراسات اللاهوتية فى العالم. استخدمت الفلسفة كسلاح فى الحوار مع الفلاسفة الوثنيين؛ واستطاعت أن تجذب العديد منهم للإيمان المسيحى. ولعل خير من استخدم الفلسفة فى كتاباته للدفاع عن الإيمان المسيحى هو القديس كليمندس السكندرى؛ وعن أهمية الفلسفة كتب يقول: «الفلسفة هبة من الله ومنة منه وهى وسيلته لتقبل العالم للمسيحية» وقال أيضا: «قبل المسيحية كانت الفلسفة ضرورية لليونانيين للبر؛ وأما الآن فقد أصبحت موصلا للتقوى؛ بكونها نوعا من التدريب الإعدادى للذين ينالون الإيمان خلال البرهان.... لقد أعطيت الفلسفة اليونانية مباشرة وبطريقة بدائية إلى أن يدعوهم الرب؛ وكما يقود الناموس «شريعة اليهود» العبرانيين للمسيح؛ هكذا كانت الفلسفة إعدادا يهيئ الطريق إلى المسيحية؛ كأن الفلسفة اليونانية تطهر النفس وتعدها لقبول الإيمان المسيحى»؛ كذلك أيضا طالب كليمندس بضرورة الانفتاح على جميع التيارات الفلسفية فى عصره؛ وأن نأخذ من كل فلسفة أحسن ما فيها وهو ما يعرف بمذهب «الانتقاء الفلسفى»، وفى هذا الصدد كتب قائلا: «إن كل ما تقدمه كل مدرسة بشكل طيب؛ يقود إلى المعرفة الحقة النقية؛ هو ما أسميه أنا فلسفة؛ وإلى هذه الفلسفة تنسب كل الدراسات الأخرى وتدور فى فلكها». أما العلامة أوريجانوس فيقول: «الثقافة ليست شرا؛ بل بالحقيقة هى طريق الفضيلة... إنها لا تعوق معرفة الله». وقال أيضا: «يلزم توبيخ أولئك المسيحيين الذين بجدون راحتهم فى جهلهم». ولقد وصف المؤرخ العالمى الشهير ول ديورانت فى موسوعته الشهيرة «قصة الحضارة» العلامة أوريجانوس بقوله: «إننا لا نكاد نعرف عالما مسيحيا ممن جاءوا بعده بقرون لم يغترف من علمه الفياض؛ ولم يعتمد على كتبه؛ وأثر دفاعه عن المسيحية عن عقول الوثنيين كما لم يؤثر فيها دفاع آخر قبله. وبفضله لم تعد المسيحية دين سلوى وراحة للنفوس فحسب؛ بل أصبحت فوق كل ذلك فلسفة ناضجة كاملة النماء؛ دعامتها الكتاب المقدس؛ ولكنها تعتز باعتمادها على العقل».