فى 22 أبريل تساءلت افتتاحية الواشنطن بوست: إذا كانت إدارة أوباما حقا سوف تتحدث مع إيران برغم اضطهادها للأمريكيين وتشهيرها بإسرائيل. وشكل هذا السؤال مؤشرا لبداية حملة التحريض الكثيفة التى تقوم بها مؤسسات اللوبى الإسرائيلى استباقا لأى حوار ممكن أن يقوم بين الولاياتالمتحدةوإيران. ثم تزامن هذا التطور المحتمل مع انعقاد المؤتمر الثانى الذى نظمته الأممالمتحدة لمكافحة التمييز العنصرى وكراهية «الغير» فى جنيف، وكان أحمدى نجاد بصفته الرئيس الإيرانى خطيبا فى جلسة الافتتاح. والذى كان انتقاده الشديد لإسرائيل مبررا لانسحاب عدد من وفود الدول الأوروبية والغربية من المؤتمر، إضافة إلى مقاطعة الولاياتالمتحدة له، حين لم تكتف بالتعديلات التى أدخلت على البيان الختامى. كما جاء افتتاح المؤتمر فى اليوم نفسه الذى تقيمه إسرائيل لاستذكار «المحرقة» التى قام بها النظام النازى فى ألمانيا. فمن جهة، تعمدت إسرائيل تكثيف حملتها ضد إيران للإسهام فى تسويق سياسات حكومة نتنياهو الهادفة بشكل واضح لجعل «الخطر النووى الإيرانى» ذريعة لترحيل أى مباحثات أو «مفاوضات» ل«عملية السلام»، مع الإبقاء على استمرار تهويد القدس وتكثيف عمليات الاستيطان وغيرها من الإجراءات التى من شأنها إجهاض أى احتمال لتنفيذ معادلة «الدولتين»، واستبدالها بمشروع هو بمثابة رشوة اقتصادية تكون البديل النهائى لحق الشعب الفلسطينى فى تقرير مصيره. كما يسعى نتنياهو إلى أن يؤكد لإدارة أوباما، قبل مقابلته فى الشهر المقبل، أن الأولوية تكمن فى معالجة مكثفة «لخطورة إيران»، حيث تستبق من حيث الأهمية استئناف أى مفاوضات مع السلطة الفلسطينية. هذا التأكيد على أولوية «الخطر الإيرانى» من شأنه تسريع عملية إجهاض صيغة الدولتين، والذى ترى حكومة نتنياهو أن الحكومات الإسرائيلية السابقة قد تباطأت فى تنفيذ المشروع الصهيونى من خلال الإيهام أن المباحثات العبثية منذ اتفاقيات أوسلو وتفاهمات أنابوليس كانت تلبية للإدارات الأمريكية! ويبدو أن نتنياهو يريد الحسم باستمالة هذه الصيغة من خلال ترحيلها والتركيز على أولوية الخطر الإيرانى، لا على إسرائيل فحسب بل على المنطقة، ومن هذا جد التوجه الذى سوف يجىء به نتنياهو إلى واشنطن فى شهر مايو المقبل. *** إلا أن إسرائيل تبدى بعض المخاوف من مواقف أمريكية مستجدة من حيث استمرار الرئيس أوباما تركيزه على حل الدولتين إسرائيل وفلسطين وعلى الإبقاء على نهج حوارى مع إيران. هذا بدوره يفسر استمرار التباين، لا بالضرورة التناقض، مما قد تحتوى عليه تقارير السيناتور جورج ميتشل من اقتراحات عملية قد تكون ضاغطة على الحكومة الإسرائيلية، بما يفسر كثافة وشراسة الانتقادات التى يقوم بها أنصار إسرائيل لسياسات وإستراتيجيات الرئيس أوباما. كما أعلن الرئيس أوباما مرة أخرى التزامه صيغة الدولتين فى أعقاب زيارة العاهل الأردنى، الذى سلمه رسالة وزراء الخارجية العرب، والتى أكدت على المبادرة العربية التى وافق عليها أعضاء الجامعة العربية. وحيث إن عددا من رؤساء الدول العربية قادمون إلى واشنطن، فمن المتوقع المزيد من الوضوح فى مدى الالتزام الأمريكى بأن تكون الدولة الفلسطينية دولة بكل معنى الكلمة. نشير فى هذا الشأن إلى أن نتنياهو يريد أن يوضح لأوباما «خطوطًا حمراء»، هى بمثابة قيود، بذريعة «المحافظة على أمن إسرائيل». وكما أوردت الصحافة الإسرائيلية فى الأيام الأخيرة منها أن الكيان الفلسطينى سيكون منزوع السلاح الثقيل ويخضع مجاله الجوى للسيطرة الإسرائيلية، كما ستتم السيطرة على حدود هذا الكيان ومنعه من إبرام معاهدات مع دول، خاصة إيران. هل هذه «دولة»؟ إن ما يهمهم أن تكون مفرغة من جميع عناصر السيادة واستقلالية الإرادة، وهذا ما تتثقف به العقيدة الصهيونية. وإذا تحققت تم إلغاء فلسطين كقضية، كدولة، كحق للشعب الفلسطينى، وبالتالى عمليا فرض السلام بمفهوم إسرائيلى، وبالتالى تهديد واضح للأمن القومى العربى. *** أمام هذا الذى تخطط له إسرائيل منذ نشأتها، وتعرضه بشكل ملتبس كما فى الحكومات السابقة، وبشكل واضح كما هو الحال الآن، ماذا يفعل النظام العربى القائم أو بالأحرى، هل سيأتى القادة العرب بوفد واحد وبخطاب واحد يركز على الأولويات القومية، أو يأتى القادة العرب بمواقف متباينة أو مختلفة أو والعياذ بالله متناقضة؟ لذا إذا لم تستقم العلاقات العربية العربية فلن يكون لمواقفنا أى مصداقية، ناهيك عن أى آثار من شأنها تعزيز ما تنطوى عليه القضية الفلسطينية من حقوق لها ومن مسئوليات علينا حكومات وشعوبا. المؤشرات الراهنة تدلل على أن مستوى التعامل مع القضية الفلسطينية ليس بالمستوى المطلوب والمرغوب، وإذا بقينا بهذا المستوى من التعامل فقد نكون على وشك خسارة فلسطين كقضية.. مركزية، هو ما قد يدفع الإحباط العام إما الاستقالة من الأمل والعمل، وإما انفجار الكبت! والخياران ينطويان على مخاطر جمة تجهض أى قدرة على صناعة المستقبل الواعد لأجيالنا القادمة.. وهنا مكمن الأزمة. أجل، قد يكون فى هذا التصور بعض المبالغة، إلا أنه وضع مرشح أن يصبح واقعا إذا لم نتداركه، من خلال التحريض على تغيير سريع يرجعنا عن حافة الهاوية التى تكاد القضية الفلسطينية تقع فيها. أجل، لم يخطر فى بالى يوما أن نصل إلى هذا الوضع المخيف، الذى يهدد شعب فلسطين، ويلغى فلسطين كقضية مركزية، وينطوى على رسوخ التجزئة وتعزيز الهيمنة على مقدرات ومستقبل الوطن العربى بجميع أقطاره. أشير إلى هذا الوضع، والذى يزداد سوءا يوما بعد يوم، تتعثر فيه الأمور، كما أساليب المعالجة، غير مدركين أننا نفوت فرصا متاحة يمكننا بها إزالة حواجز معوقة. وبالتالى تطوير مؤسسات للتنمية المستدامة شرط التنسيق الملزم فى علاقاتنا القومية بأبعادها الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، حتى تؤخذ سياساتنا وخطابنا العام على محمل الجد، فتستعيد شعوبنا ثقتها بنفسها وبأمل قادم لوحدتنا؛ خاصة أننا فى الحالة الراهنة نجذب اهتماما، وبالتالى انفتاحا، وإن كان الآن ضئيلا، للاستماع لبعض الحقائق التى تحاول إسرائيل تغييبها عن صانعى القرار والرأى، خاصة فى العالم الغربى، وعلى الأخص فى الولاياتالمتحدة. إذا كان لا مفر من التدليل على هذا الوجه من الأزمة فيكفى أن نشير إلى اجتماع «ديربان 2»، الذى انعقد فى جنيف، والذى حاول الاستحواذ عليه الرئيس الإيرانى، محاولا توظيف غياب عربى بالمستوى المطلوب فى هذه المناسبة وفى هذه المرحلة بالذات، طارحا نفسه محتضنا رئيسيا للقضية الفلسطينية. من جهة يبلور خطابا لم نساهم نحن العرب فى صياغته أو فى مضمونه، وإن احتوى على حقائق وإخراجها بشكل لن يستطيع العرب التنصل منها، وبالوقت نفسه، لا يمكنهم تبنيها، كونها ترجح منهج الاستفزاز على ضرورة الإقناع. لقد تم الإعداد لهذا المؤتمر منذ أشهر، لماذا يا ترى لم يستنفر الفريق العربى المشارك فى الإعداد فى تعبئة مكثفة لكبار المفكرين الفلسطينيين، أمثال وليد الخالدى وحنان عشراوى والكثير الكثير من مثقفى فلسطين والناشطين فيها ومن الدول العربية الذين كان باستطاعتهم تفنيد كل افتراء وتصحيح كل خطأ وفضح كل تزوير. إضافة إلى دعوة مقنعة لبلورة قيم الحضارة العربية والإسلامية التى من شأنها تعميق المفاهيم التى تتجاوب مع أهداف المؤتمر فى مكافحة التمييز العنصرى وكل أوجه الاضطهاد العرقى والدينى وجميع الممارسات الإرهابية، ومخاطبة العالم بأعلى مستويات الأداء والمقدرة على إعادة استيعاب دائرة الوجدان، بحيث يدرك الذين قاطعوا المؤتمر كم كانوا مخطئين بحق القيم التى يدعون تبنيها. صحيح كان المؤتمر فى جنيف فى الأسبوع الماضى قد خلا للاستفادة بالدخول فى أبواب كانت مغلقة، كما توحى مفاهيم إدارة أوباما الاستعداد لحوارات تستولد نتائج إيجابية وإن بالتدرج بغية توخى الموضوعية، وبالتالى كبت التميز المطلق لا لإسرائيل «وأمنها» فحسب، بل للترخيص المسبق التى تمنحه الإدارات الأمريكية عادة لأهدافها القادمة. *** من هذا المنطلق لاتزال الصهيونية هى الخطر الحقيقى، وبالتالى هى العدو. أما أن نجعل المسالمة معها وإن بقى التوتر والاختلاف ضمن إطار التطبيع، فهذا يئول كما هو حاصل بالفعل إلى الإمعان فى تهميش قضايانا المصيرية، وفى طليعتها فلسطين ومصيرها. وإذا تحولت الأولوية الراهنة لإسرائيل فى التركيز على أولوية الخطر الإيرانى إلى إحدى الأولويات للنظام العربى أو إلى قوى فيه فإن من شأنه الوقوع فى مصيدة أشد خطورة من مصيدة اتفاقيات أوسلو، وبالتالى بقصد أو بغير قصد التماهى مع أولوية العدوان الإسرائيلى والمشروع الصهيونى فى احتكار تقرير مصائر المنطقة. إن الافتراء الإسرائيلى السياسى والإعلامى على نضال الشعب الفلسطينى وعلى ثقافة المقاومة فى الوطن العربى يتبجح بمقدار ما نجعل إسرائيل الخصم الثانى، خاصة إذا فقدنا التركيز على كونها العدو الرئيسى للأمة العربية، حتى فى أوج خصوماتها مع غيرها فهى تبقى قابلة للمعالجة والتفاوض. هذا ينطبق على العديد من أوجه الخصومة مع إيران مهما اختلفنا مع خطابها العام وعنادها فى عدم تلبيتها اللجوء إلى المحكمة الدولية فى موضوع الجزر الإماراتية. إن التفريق بين الخصومة والعداوة تحد رئيسى لاجتناب الخطر الذى ينطوى عليه أى خطأ فى هذا الشأن، وإن الاحتضان الدافئ للمقاومين يعزز من المناعة القومية، ويفرض أن يلازم الاحتضان القبول بالنقد والإسهام فى رسم إستراتيجية تحترم قانونية السيادات القطرية وشرعية المقاومة المنضبطة. الأهم ألا نجيز أن تكون أولوياتنا ملتبسة حتى نبقى قادرين على استرجاع حقوقنا الوطنية وتمكيننا من صناعة تاريخنا بدلا من تركه أن يصنعه الغير لنا.