مثل أسطورة سنوحى المصرى، يعود الكاتب الفرنسى المصرى المولد إلى القاهرة، هذا العاشق الذى قضى سنوات صباه على أرض المحروسة وسافر إلى باريس منذ أربعين عاما، وغيّر لقبه من «جيلبير كساب» إلى «جيلبير سينويه» أى سنوحى المصرى كاتب المنفى بامتياز وصاحب أول النصوص الأدبية الذاتية فى مصر القديمة . جاء يلبى دعوة خاصة من مكتبة «أم الدنيا» التى تفتح نافذة غربية على العالم العربى منذ تأسيسها منذ ست سنوات ويوقع روايته الأحدث «إن شاء الله» فى مسقط رأسه الذى قال عنه أثناء تسلمه لقب فارس الفنون والآداب من وزارة الثقافة الفرنسية إن فرنسا هى وطنه أما مصر فهى الأرض الأم. ورغم أن معظم كتاباته تتناول مصر والشرق بصورة أو أخرى، فإن رواية «إن شاء الله» بجزءيها (نفحة الياسمين) و(صرخة الحجر) تتخذ أهمية خاصة لكونها تتناول بدايات الصراع العربى الإسرائيلى منذ 1916 حتى اليوم، حاول صاحبها أن يلتزم الحياد ليشرح للغرب أن «المحتل لا يمكنه أن يعطى ما لا يملك» مثلما حدث فى وعد بلفور، وأن «إسرائيل خطأ تاريخى». ما المحرك الذى جعلك تنفق عشر سنوات لإنجاز رواية «إن شاء الله» بجزءيها «نفحة الياسمين» و«صرخة الحجر» والعودة إلى جذور الصراع العربى الإسرائيلى؟ خلال إقامتى فى الغرب منذ أربعين عاما أدركت أن الغرب لا يفهم شيئا عما يحدث فى الشرق الأوسط، فهم يعتقدون مثلا أن الفلسطينيين أتوا بعد إقامة دولة إسرائيل. ففكرت أن أكتب رواية تعود إلى البدايات أى منذ 1916 واتفاق سايكس بيكو الذى تم من خلاله تقسيم العالم العربى. كانت الفكرة تراودنى وأعمل عليها إلى جانب روايات أخرى، لكن ما فجر الكتابة لدى كانت أحداث الهجوم على مركز التجارة العالمى فى الحادى عشر من سبتمبر. كان العالم كله يسأل كيف حدث ذلك، لكنى كنت معنيا فى المقام الأول بسؤال لماذا؟ لأن الأفعال وردود الأفعال لها دائما ما يفسرها حتى وإن كان يصعب علينا التسامح معها. وأردت أن أعود إلى صناعة لبنان، ووعد بلفور وإقامة إسرائيل وصناعة لبنان، ولكنى رغم العودة إلى التاريخ والوثائق أردت أن أفسر الأحداث بشكل إنسانى، لذا كانت الرواية تدور من خلال تاريخ أربع عائلات عراقية ومصرية وفلسطينية ويهودية. نفحة الياسمين تروى حكاية هذه الأسر من 1916 حتى 1956، وصرخة الحجر تستكمل من العدوان الثلاثى وتأميم القناة وحتى 2001. كتبت أيضا خمس روايات تدور كلها فى مصر (المصرية، فتاة النيل، الفرعون الأخير، أخناتون، الكولونيل والملك الطفل) والعديد من الأعمال التى تتناول الشرق بصورة أو بأخرى، حتى إن بعض النقاد اعتبرك تخوض مغامرة كبيرة فى تناولك تاريخ النكبة الفلسطينية فى عملك الأخير؟ كتبت العديد من أعمالى عن الشرق الأوسط لأنى شديد الارتباط بهذه المنطقة، أعشق مصر، وفى نفس الوقت أعانى كثيرا من الصورة التى كونها الغرب عن عالمنا الشرقى، فاليوم ينظر الغرب لقضية المتطرفين والإسلاميين، وينسون ما قدمه العالم الإسلامى قديما للغرب، هذا الميراث الثقافى المتميز الذى تركوه، وهذا ما حاولت تقديمه من خلال رواية «ابن رشد»، وأن أذكر الغرب أن الشرق ليس مجرد الإسلاميين وليس فقط المرأة ذات النقاب. أما عن المخاطرة، فكنت أعلم حين بدأت هذا المشروع أنى أقوم بمخاطرة مهمة، لكنى تساءلت إن لم أقم بها فى هذه السن، متى تكون إذن؟ اليوم أسمح لنفسى أن أعالج موضوعات لم أكن أجرؤ على تناولها فى العشرين من عمرى أى أن أخوض موضوعات صعبة مثل القضية الفلسطينية الإسرائيلية قضية تهمنى، وأعتقد أن على المرء أن يصبح ملتزما نحو قضية فى الحياة فى لحظة ما، الفلسطينيون تم التنكيل بهم من قبل العرب ومن قبل اليهود، وهم لا يستحقون هذا المصير. ذكرت فيما سبق أنك «قمت باطلاع مخطوط الرواية لفلسطينى ولإسرائيلى، وغضب كلاهما فتأكدت عندئذ أنى أقارب الحقيقة» ماذا تعنى؟ غضب منى الكثيرون بسبب الرواية، لكنى كنت أحاول قدر الإمكان أن أكون أمينا فى التوثيق لها، غضب منى صديق قديم لأنى قلت إن بعض الشوام باعوا أراضيهم ليهود، وهذه حقيقة حتى وإن لم يكونوا على علم بما سيحدث بعد ذلك. وعلى الجانب الآخر اتهمنى البعض بالعنصرية لأنى حددت فى الرواية أربع أسر عراقية ومصرية وفلسطينية ولم أقل إسرائيلية بل يهودية، والواقع أن فى 1916 لم يكن هناك شىء يدعى إسرائيل. اسرائيل أصبحت واقعا اليوم، والدولة الفلسطينية ستكون مثل قطع البازل مع وجود 500 مستعمرة اسرائيلية، وفى ظل هذا الوضع نطالب بحقوق الفلسطينيين من إلغاء نقاط التفتيش واستعادة حقوقهم المدنية، لكن هذا يعنى بالنسبة للإسرائيليين إعطاءهم حق التصويت والانتخاب. أعتقد أن العرب كان يمكنهم أن يقوموا برد فعل ويجدوا الحل فى 48 ساعة منذ 1967 لو كانوا استخدموا سلاح البترول، لكن العرب دائما متأخرون بمقدار حربين. وكيف تعرّف الرواية التاريخية التى تميل إليها فى أعمالك؟ دائما ما توضع اللافتات على الرواية، لكنى أتمنى أن يشرح لى أحدهم متى تكون الرواية تاريخية ومتى لا تكون كذلك هل الإنجيل لا يحوى روايات تاريخية؟ من الصعب التحديد أفضل أن أصف أعمالى بأنها رواية فى التاريخ، تماما كما لو كنا فى المسرح ولدينا ممثلون فى خلفية وديكور تاريخى. فأنا أحترم فى رواياتى التاريخ والشخصيات التاريخية وتكون داخل هذا الديكور شخصيات متخيلة، أحاول أن أكون أمينا فى الجزء التوثيقى، وبخاصة فى روايتى الأخيرة لأنه موضوع شديد الحساسية وألزمت نفسى بأن أكون شديد الجدية فى بحثى. كتبت أيضا أعمالا متخيلة تماما مثل رواية أيام وليالى والرواية البوليسية، لكنى أستمتع أكثر بالرواية المتخيلة وأنوى أن أكتبها فى الفترة المقبلة، لأن الخيال يحرر الكاتب، فلا يمكن أن أكتب أن ابن رشد ذهب يبجث عن ماكدونالد على سبيل المثال! كتبت رواية «الكولونيل والملك الطفل» التى تناولت فيها جزءا من سيرتك الذاتية قبل سفرك إلى فرنسا إبان خروج الملك فاروق وتولى ناصر الحكم، وبدا فيها النقد لمرحلة ناصر والحنين إليها فى الوقت نفسه؟ أشعر بالغضب الشديد والإعجاب بناصر فى الوقت نفسه. وغضبى لم يكن شخصيا لأننا سافرنا مع أسرتى ليس بسبب التأميم لكن لتعثر ظروف والدى المالية. الغضب من ناصر لأنى أعتقد أنه فاته موعد مع التاريخ، أعتقد أنه كان محاطا بجماعة سيئة، وناصحو أيضا كانوا سيئين، والدليل أن حسنين هيكل كان يروى أنهم حين أقاموا الثورة لم يكن لديهم أى خطة للنظام، كانوا ضباطا شبابا قوميين، لم تكن لديهم الخبرة. خطأ كبير اقترفوه أن يتم تأميم بلد كامل، مثل كوبا، لا يمكن تطبيقه لأنها كارثة اقتصادية. وفى فترة الستينيات الصاخبة قام ناصر بقطع رأس الانتليجنتسيا المكونة من اليونانيين والإيطاليين وغيرهما، وأعتقد أنه بذلك أفقد الثقافة المصرية العديد من عناصر ثرائها. كنت محتاجا إلى وقت كاف لأهضم هذه المرحلة قبل أن أكتب عنها، فهى مثل قصة الحب الى تنتهى وتتطلب مرور الوقت حتى يستطيع المرء أن يجترها من جديد. فى تناولك لقضية الصراع العربى الاسرائيلى منذ الجذور، اخترت تعبير «إن شاء الله» ليكون عنوانا للرواية، ألا يحمل فى نفس الوقت الأمل ونقيضه، هل مازلت ترى أن هناك أملا؟ هناك الجانب القدرى «المكتوب» فى كلمة «إن شاء الله» والجانب الذى يحمل الأمل، إن شاء الله بالنسبة لى لا تعبر عن التشاؤم، يكفى وجود رجلين ليتغير التاريخ، السادات استطاع رغم أن الكثيرين فى العالم العربى يكرهونه عمل عملا شجاعا، وكذلك رابين إن لم يكن قتل لكان غير الكثير، حينما أقول إن شاء الله أعنى أنه يكفى أن يوجد الرجل المناسب ليغير الواقع. ينقصنا وجود وجه كبير يتمتع بالكاريزما شخصية تجمع حولها الشعوب، وأظن أن ناصر مع كل عيوبه كان يمكن أن يلعب هذا الدور. لماذا بدأت الكتابة فى سن متأخرة فى الأربعين بعد أن عملت مدرس موسيقى وألفت العديد من الأغانى لكبار الفنانين فى ذلك الوقت؟ كتبت فى سن متأخرة، رغم أنه كان دائما حلمى أن أصبح كاتبا، لكنى كنت أعتبر نفسى بلا موهبة، كنت أقرأ كبار الكتاب وأدرك أنى لن أستطيع أن أكتب مثلهم، وفى سن 27 سنة كتبت روايتى الأولى بعنوان «أرض العادلين» ولم يقبل أحد بنشرها، كانت تدور أثناء حرب 67. ثم حين قاربت من سن الأربعين، وكالعادة بدأت أطرح السؤال على نفسى كم يتبقى من العمر، وأدركت أنى إذا مت فى اليوم التالى كنت سأقول نادما قبل موتى بخمس دقائق أنى قد فوت حلما جميلا، أى أننى كتبت خوفا من عدم محاولة تحقيق حلمى. لو لم يكن انتابنى هذا الخوف لما فكرت فى الكتابة بشكل فعلى.