إلى جوار معانى الصبر والحسد والخوف التى تشى بها ملصقات السيارات والعبارات المدونة عليها، هناك أيضا مسحة من الأنانية وفقدان الثقة حتى فى أعز الأصحاب، إذ تبرز جمل ساخرة على شاكلة «إما من الزمان أو من البشر». من بين عشرات العبارات التى كان بإمكانه اختيارها لم يجد سائق ربع النقل الجالس قرب ميدان الموسكى سوى عبارة واحدة غطت زجاج سيارته الخلفى: «مفيش صاحب يتصاحب»، ليست عبارة للزينة، بل عقيدة أراد التشبث بها حتى النهاية، ويقول متهكما: «لاصقها عشان مانساش»، ذكر أنها رسالة إلى كل من يقرأها بأنه من الصعب استغلاله تحت شعار «الصحوبية». أين يمكن الحصول على مثل تلك العبارات؟ أجاب: «عند أى حد بتاع فوسفور»، يقصد بذلك محال كماليات السيارات المهتمة بالملصقات. جولة بين هذه المحال تكشف عن أن بعضها اقتصر على تجهيز السيارات الملاكى التى تخضع لقواعد أخرى بعيدة عن هذه العبارات الشعبية، أحمد نايتى، الذى يعمل فى أحد هذه المحال بشارع أحمد سعيد ناحية العباسية، يوضح أن السيارات الملاكى تجتذب عبارات أخرى بالإنجليزية وملصقات إيحائية مثل «النيران على جانبى السيارة» وغيرها، وكل هذا يبتعد تماما عن مزاج من اختاروا عبارات من نوعية «راحوا الحبايب»، و«علمته يفرح.. سابنى حزين» وغيرها من العبارات التى تزين التوك توك والميكروباص والنقل. رغم ابتعاده عن هذا المجال، لكنه يعلم رواده المتمركزين فى مناطق مثل عين شمس وإمبابة والجيزة، يحفظ العبارات التى يطبعونها لزبائنهم لكنه لا يبيعها. الاهتمام بتتبع ما هو مكتوب على خلفيات السيارات والحافلات كان موضوع دراسة مهمة نشرت تحت عنوان: «هتاف الصامتين.. ظاهرة الكتابة على هياكل المركبات» (دار الطباعة الحديثة 1971)، ذكر مؤلفها عالم الاجتماع الراحل الدكتور سيد عويس أنه بعد هزيمة عام 67 أصابته هزة فى جدوى حب مصر وسط أجواء اليأس آنذاك، فاتجه إلى دراسة ملامح خوف المصريين من المجهول عبر جمع تلك الجمل المكتوبة على سياراتهم وعرباتهم لتحليلها، واستمرت الدراسة حتى عام 70، رصد فيها أكثر من 1000 كلمة وعبارة مكتوبة على 500 وسيلة نقل أو عربات يد وكارو، حملت نتائج هذه الدراسة عبارات بدأت فى الانحسار الآن، لكنها أكدت البعد الإيمانى الذى برز فى عبارات دينية مثل الأدعية والابتهالات والنصوص الدينية التى وضعها السائقون تعبيرا عن الرضا بالقدر، وتجاورت العبارات السلبية مثل اللامبالاة والحيرة والمذلة إلى جوار قيم ايجابية مثل التعاون والمحبة. يسير فى شوارع مصر أكثر من 4.6 مليون مركبة، حسب أرقام الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء لعام 2008. ورغم أن قانون المرور الجديد ما زال محافظا على رفض مثل تلك العبارات على السيارات ووسائل النقل إلا أنها مازالت موجودة بقوة مثلما كان الحال وقت إعداد دراسة هتاف الصامتين، وهو ما شجع باحثين آخرين على إعداد دراسة تتبعية لدراسة هتاف الصامتين فى الفترة من العام 2002 حتى عام 2004 (منشورة فى المجلة العربية لعلم الاجتماع، العدد الأول يناير 2008)، وكان قد انضم إلى قافلة المركبات فى مصر حينذاك وسيلة جديدة للنقل هى التوك توك الذى يستضيف كثيرا من الملصقات على خلفيته الضئيلة. كشفت هذه الدراسة الحديثة عن أن مزاج السائق المصرى لم يختلف تماما فى التعبير عن نفسه، إذ ظل اسم الجلالة «الله» هو الاسم الأول فى نتائج الدراستين، وما زالت معانى الصبر والحسد والخوف بارزة فى العبارات المستخدمة، لكن الدراسة الجديدة سجلت ظهور أشكال شعبية مختلفة تروج للفردية والأنانية، «عايز تصاحب صاحب نفسك»، أو جمل ساخرة إما من الزمان أو من البشر مثل «محدش فاهم حاجة». مثل هذه الجمل يأتى مقترحوها إلى إبراهيم أحمد الشاب الثلاثينى الجالس خلف شاشة الكمبيوتر لإنتاج مثل هذه الملصقات حسب طلب زبائنه، يقول: «بدأت فى هذا المجال قبل أكثر من عشر سنوات، فى البداية كنت أتعامل مع أدوات شركات الدعاية لنقص الإمكانات، اليوم أنتجها بنفسى». لا للعبارات الإباحية على بعد أمتار من مزلقان كوفرتينا فى حى عين شمس عدد من محال بيع كماليات السيارات، يجلس إبراهيم فى أحدها وسط عدد كبير من الاكسسوارات والمرايا وجنوط السيارات، لا يمثل نشاطه على جهاز الكمبيوتر إلا مساحة ضئيلة من نشاط المحل الذى يعمل به. إبراهيم الذى درس الفنون الجميلة قبل سنوات عديدة لا يعمل الآن سوى فى توصيل أصوات السائقين إلى العالم عبر ملصق على خلفية السيارة. أحيانا ما يكون الملصق دعاية لصاحب السيارة أو سائقها بحيث يكون معروفا به وسط السائقين مثل «البرنس»، «العمدة»، «أبو يارا»، فتنسب السيارة إلى هذا الاسم الملصق على الزجاج الخلفى.. عدا تلك الملصقات ذات الطابع الدينى المنتشرة بين الميكروباصات مثل «لا إله إلا الله»، و«اذكر الله». يقول إبراهيم: «على مدار عشر سنوات من العمل فى هذا المجال ازدهرت فكرة الملصقات فقط قبل ست سنوات تقريبا مع انتشار الفكرة وسهولة إنتاجها». هذا التطور الذى لاحظه إبراهيم لم يكن يقتصر فقط على أدوات الإنتاج بل انعكس على مضمون العبارات نفسها: «مؤخرا جاءنى أحدهم يطلب كتابة عبارة إباحية فى ملصق على ظهر سيارته، فرفضت لأن لى قواعد لن أتنازل عنها، أهمها عدم كتابة عبارات إباحية أو تحريضية». ما لاحظه إبراهيم أثناء عمله أنه مؤخرا قد انتشرت موجة من العبارات الأكثر «تبجحا»، خاصة تلك التى تنعى الصداقة منها «عايز تصاحب صاحب كلب»، والتى بدأت تكثر فى العامين الأخيرين حسب تقديره، وأحيانا ما يرفض إنتاج مثل هذه العبارات تخوفا من أن يطلب منه المزيد، لكن هذه الطلبات المرفوضة يقبل غيره إنتاجها. أثناء جلوسه خلف الكمبيوتر تأتيه امرأة فى جلباب أسود تعيش حالة من البهجة بمناسبة الترخيص الجديد للتاكسى الذى تملكه العائلة، طلبت طلبا تقليديا للغاية، ملصقات فوسفورية بشكل اللوحات المرورية الجديدة، وإلى جوارها أسماء الأبناء، وفوق كل ذلك آية: «قل أعوذ برب الفلق». فى دقائق كان إبراهيم قد كتبها على الكمبيوتر وأخرج لوحة بيضاء أدخلها فى جهاز ينتهى «بكاتر تقطيع» يرشق سنه فى اللوح الورقى وبعدها يتم تفريغ الشكل المطلوب وتغطيته بورق ملون.. يقول إبراهيم: «الموضوع غير مكلف، ملصق بعرض 90 سم وطول 12 سم قد يكلف السائق 10 جنيهات فقط». يعمل إبراهيم فى خدمة طلبات السائقين، ليس لديه أفكار أو عبارات جاهزة، لكنه جوار باب المحل الذى يعمل به لم يحرم نفسه من ملصق يعبر به عن نفسه وانتمائه، كان الملصق: «الأهلى.. واحد بس»، وهو الشعار الذى يتبدل أحيانا على خلفيات الميكروباص فيصبح اسم السائق محل كلمة «الأهلى».