محاكم التفتيش قد تقتل الأجساد وقد تفرق بينها لكنها لا تستطيع أن تقتل الأفكار بل إنها وإن قتلت أصحابها أو اضطهدتهم فإنها تحيها وتجعلها عابرة لزمانها ومكانها هذا ما أثبتته الوقائع عبر التاريخ، ولم يكن استثناء منها المفكر الراحل الدكتور نصر حامد أبوزيد، الذى دعت أسرته وأصدقاءه إلى احتفالية لتأبينه أقيمت أمس الأول بدار الأوبر بعنوان «يوم الدفاع عن الحرية الفكرية» فالحضور الكبير الذى جاء من أماكن مختلفة وتنوعت أعماره ما بين شباب وشيوخ، وشخصيات مرموقة بعضهم جاء من دول عربية وأجنبية على نفقته الخاصة. استقبلتهم الدكتور ابتهال يونس زوجة المفكر الراحل بالقول إنها تأكدت من مقولة إن المفكرين لا يموتون ليس فقط بسبب الكتب، التى تركوها خلفهم بل بوجودهم وحضورهم الدائم على الساحة الفكرية من خلال إحياء فكرهم ومناقشته ومن خلال الندوات واللقاءات الدكتور نصر أبوزيد هو أشهر من تعرضوا للاضطهاد بسبب أفكاره فى مصر فى العصر الحديث، حيث حكمت أحد المحاكم بتفريقه عن زوجته بسبب اعتباره مرتدا، وهو ما اضطره إلى السفر إلى هولندا عام 1995، وهناك عمل كأستاذ كرسى الحرية بجامعة ليدن، إلى أن وافته المنية فى يوليو الماضى عن عمر يناهز السابعة والستين. وروى الدكتور جابر عصفور، رئيس المركز القومى للترجمة وأحد أصدقاء أبوزيد المقربين، قصتين من التاريخ حول علاقة السلطة بحرية الفكر، أولهما قصة إدانة الشيخ على عبدالرازق فى عهد حكومة زيور باشا المستبدة عام 1925 وسحبها شهادة العالمية منه، ثم واقعة صدور كتاب طه حسين «فى الشعر الجاهلى» فى عام 1926، وبالرغم من الجدل الذى أثير فإنه لم يعاقب، لأن الحكومة فى ذلك الوقت كحكومة الوفد والأحرار الدستوريين كانت تحتمى بدستور ديمقراطى المشهد الثانى، كما يروى عصفور، هو صدور كتاب للدكتور عبدالصبور شاهين منذ سنوات، واتهامه بنفس الاتهامات التى اتهم بها الدكتور نصر أبوزيد لكنه لم يدنواختتم عصفور حديثه بقول المتنبى: «وكم ذا بمصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكاء». وأكد الدكتور عماد أبوغازى، الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة أن الحرية، حرية الرأى، حرية التعبير، حرية البحث العلمى، هى قيمة ترتفع بها الأمم وتتقدموأضاف: «ترك نصر تراثا فكريا علينا أن نكون أمناء عليه، من خلال التحاور معه، ودعا رئيس المجلس الأعلى للثقافة إلى الإعداد إلى لقاء بجامعة القاهرة لمناقشة أفكار أبوزيد وقال الدكتور برهان غليون، أستاذ علم الاجتماع السياسى ومدير مركز دراسات الشرق المعاصر فى جامعة السوربون: «لسنا بصدد الدفاع عن فكر نصر حامد أبوزيد، لأن فكره قادر على أن يدافع عن نفسه، إنما نحن بصدد الدفاع عن حقنا جميعا أن نكون قادرين على التعبير عما نفكر فيه ونعتقده، وألا يخبرنا أحد أن نفكر حسبما يمليه علينا أصحاب السلطة سواء السياسية أو الدينية، هذه هى حرية التعبير وأكد غليون أن المنطقة العربية تعيش فترة تحول سريع، وهناك اختلاف فى كل شىء سواء على المستوى السياسى أو الاقتصادى أو الثقافى، وإذ لم نقبل بالاختلاف وأن من حق أى فرد أن يفكر باستقلال ويدافع عن رأيه فسوف نصطدم باستمرار ويزيد العنف وقال غليون إن من حق الفرد أن يخطئ دون أن يتهم فى إيمانه أو يكفر «ليس لأحد منا أن يدعى أنه وصل إلى الحق، أو إنه اكتشف النموذج الأرقى أو لديه التصور الصحيح للاجتهاد فى الدين، نحن كلنا نتلمس طريقنا، ولا أحد منا لديه مفتاح الحق ومن دون ذلك سيزداد العنف ولن نصل إلى حل لا فى مسائل الدين، ولا السياسة ولا الاقتصاد وقال الكاتب الفلسطينى فيصل دراج: «لم يشأ الأستاذ الجامعى أن يأخذ بعادات الفكر الاتباعى، الذى ينصاع إلى القديم ويعيد إنتاجه بلا اختلاف، إنما أراد أن يكون المختلف النقدى، الذى يقلق الأسئلة القدرية ويطرح جديدا مفيدا وأضاف: «أقام أبوزيد بحثه على مبدأ التعدد الذى لا يرتاح إلى اليقين، مؤكدا أن المعرفة حوار، وأن العقل الإنسانى متعدد، وإن الركون إلى الأحادية والتجانس اقتراب من الموت، وبسبب قلقه المعرفى، الذى هو ميزة كل مفكر حقيقى، اختلف مع حراس الركود، الذين يساوون بين الجمود والمقدس، واختلف مع تقليد مدرسى قديم يصالح ما بين الحقيقة والمنفعة السلطوية». وروت الدكتورة آمنة نصير، أستاذة الدراسات الإسلامية بجامعة الأزهر، كيف استقبلها الدكتور نصر بحرارة حين ذهبت كأستاذ زائر بجامعة ليدن ودافع عنها فى غيبتها، وقالت: «إننا نمر بمحنة لأننا لا نحترم ثقافة الاختلاف، رغم أن الدين الإسلامى فيه ضوابط للاختلاف فى الرأى تكاد تسبق كل الشرائع وقال الناقد والأديب إبراهيم فتحى، إن أبوزيد اتبع منهج التأويل التاريخى، وأن كلام الله عنده يخاطب بشر محكومين بتغير التاريخ، وهو الأمر الذى يقطع الصلة بالجمود ويفتح الصلة بالتفتح والروحانية وأشار إلى أن أبوزيد كان يرى أن القرآن دعوة للمؤمنين أن يمدوا أجل الحوار، وأن ينظروا إلى فترة النزول لا باعتبارها فترة منعزلة، ولكن تتسع للتواؤم مع الظروف الجديدة، فهناك بعض الآيات لا يصلح فهمها إلا بالرجوع للواقع، مثل آيات الرقيق وملك اليمين، وآيات الجهاد لنشر الإسلام، والعقاب الجسدى. ومنهج أبوزيد التاريخى العقلانى لا يرى مانعا من تحريم الرق، بعد أن كان الوحى ييسر من تحرير الرقاب، ولا يرى مانعا من إلغاء العقاب الجسدى وقال فتحى إن منهج نصر التاريخى العقلى، منهج خصب لا يحيد عن المبادئ الإسلامية بل يوظفها توظيفا شديد الفائدة. بينا قال الكاتب اللبنانى على حرب: «لن أجارى الكثيرين فى أن نصر لم يسئ إلى الإسلام، نصر لم يكن يعمل فى خدمة العقيدة الإسلامية، بل كان ناقدا ومحللا للخطاب الدينى، وإذا كانت ثمة فائدة من عمله فإنها تعود للمجتمعات العربية، لأن المجتمعات الحرة القوية هى من ينتج معرفة لنفسها وللآخرين، هذا ما فعله المسلمون فى عصور ازدهارهم، وهذا ما تفعله الحضارات الصاعدة الآن وأضاف: «إن كتابات نصر تصب فى صالح زعزعة السلطة الدينية، وإنه لا يفيد الإسلام بقدر ما يفيد المجتمعات العربية». وأضاف أن أبوزيد وإن أبدى تراجعا فى الفترة الأخيرة من حياته، إلا أن الأفكار التى طرحها خاصة فكرة أن القرآن هو نتاج ثقافة عصره، هى أفكار لا تموت.