مصر فى أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن التاسع عشر من 1876 إلى 1882 بلد يموج بالحركة والفوران، الحركة الوطنية الساعية إلى تحقيق نظام نيابى دستورى وإنهاء التدخل الأجنبى تصل إلى أوجها، الحاكم الشرعى للبلاد يعزل من منصبه بضغوط أوروبية، والمؤامرات الدولية تحاك من أجل السيطرة على مصر. فى هذه الظروف دفعت تطورات الصراع السياسى فى مصر بالضابط أحمد عرابى الحسينى الذى كان فى الأربعين من عمره إلى صدارة الأحداث ليصبح زعيما للثورة وزعيما للحزب الوطنى الذى كان يناهض سيطرة الجراكسة والتدخل الأجنبى والتبعية للعثمانيين، بل ليصبح زعيما للأمة كلها. لقد اصطدمت الثورة العرابية بالأطماع الأوروبية التى كانت أقوى من قدرات العرابيين على مواجهتها فانتهى الأمر إلى الهزيمة المريرة فى موقعة التل الكبير، لقد بدأ الصدام بين عرابى والخديو توفيق فى أوائل عام 1881 عندما تم استدعاء أحمد عرابى وعلى فهمى وعبدالعال حلمى إلى مقر ديوان الجهادية بقصر النيل بدعوى الإعداد لزفاف إحدى الأميرات، وكان السبب الحقيقى للاستدعاء هو أن رياض باشا رئيس مجلس النظار كان قد أصدر أمرا باعتقال عرابى وزميليه وتقديمهم لمجلس عسكرى عاجل تم تشكيله يوم 30 يناير سنة 1881، وكانت النية مبيتة لإصدار حكم بتجريدهم من رتبهم ونياشينهم ردا على المذكرة التى رفعها عرابى إلى رياض باشا وطالب فيها بعزل عثمان رفقى ناظر الجهادية بسبب تعصبه للجراكسة واضطهاده للضباط المصريين. والطريف فى الأمر، أن زوجة رياض باشا رئيس النظار وكانت مصرية فضحت المؤامرة وكشفتها للعرابيين فتأهبوا لمواجهة الموقف، وعندما تأكد لضباط كتيبة الحرس الخديوى والتى كانت تسمى الآلاى الأول أن أحمد عرابى وعلى فهمى وعبدالعال حلمى رهن الاعتقال، وأن المجلس العسكرى منعقد لمحاكمتهم، قام البكباشى محمد عبيد أحد ضباط الآلاى بتحريض جنوده للزحف على قصر النيل لإطلاق سراح عرابى ورفيقيه. ولم تجد جهود قائمقام الآلاى خورشيد بك ولا تهديدات الفريق راشد باشا حسنى ياور الخديو فى إثناء محمد عبيد عما عقد العزم عليه، بل إن محمد عبيد رفض استدعاء الخديو له، وخرج محمد عبيد من قشلاق عابدين على رأس جنود الآلاى الأول متوجها إلى قصر النيل، وحاصر مبنى ديوان الجهادية، ثم اقتحم الأبواب وهو الأمر الذى أدى إلى توقف اجتماع المجلس العسكرى المنعقد لمحاكمة عرابى وزميليه، وقد سجل محضر اجتماع المجلس تلك الواقعة بالصورة التالية: «وانقطع انعقاد الجلسة بسبب عصيان حربى من الفرقة الأولى من المشاة وأحدثت فصيلة من الضباط والعساكر ضجة فى الوزارة أوقفت كل الأعمال...» وهكذا نجح محمد عبيد فى تحرير عرابى ورفيقيه، فكانت هذه هى بداية وقائع الثورة العرابية، وتم عزل عثمان رفقى باشا وتعيين محمود سامى البارودى المعروف بميوله الوطنية ناظرا للجهادية بدلا منه وكان هذا هو أول انتصار للثورة. وفى الشهور القليلة التالية تصاعدت الأحداث بسرعة، وتبنى الضباط مطالب الأمة ولم يعد موقفهم مقصورًا على مطالبهم الفئوية داخل الجيش، ونظارة الجهادية. وفى المقابل حاول الخديو توفيق وحكومته إرضاء الضباط بقدر الإمكان، فقدموا لهم تنازلا تلو تنازل فيما يتعلق بتنظيم الجيش وأموره. ويحدد عرابى باشا فى مذكراته التى دونها بعد عودته من المنفى المطالب العامة التى تبناها فى تلك الأشهر من عام 1881 فيقول: «إننا لا نريد إلا الإصلاح وإقامة العدل على قاعدة الحرية والإخاء والمساواة، وذلك لا يتم إلا بإنشاء مجلس النواب وإيجاده فعلا...» وعندما أدرك الخديو أن مطالب العرابيين تجاوزت حدود إصلاح أمور الجيش إلى المطالبة مع كل الوطنيين المصريين بإصلاح أمور الوطن، بدأ يخطط لإجهاض الحركة العرابية، فانتبه عرابى وزملاؤه إلى مؤامرات الخديو، وعقدوا العزم على أخذ زمام المبادرة، فكانت مظاهرة عابدين يوم 9 سبتمبر سنة 1881 والتى تحرك فيها عرابى على رأس كل فرق الجيش المرابطة بالقاهرة ليرفعوا مطالب الأمة إلى الخديو. وقد تركزت هذه المطالب فى إسقاط الوزارة، وتأليف المجلس النيابى، وزيادة عدد الجيش، وعندما فشل الخديو فى منع المظاهرة اضطر مرغما إلى قبول جميع المطالب الوطنية. ورغم نجاح الثورة العرابية فى تلك المرحلة إلا أن مؤامرات الخديو وأعوانه من ناحية، ومؤامرات الدول الأوروبية، من ناحية أخرى لم تتوقف على الإطلاق للقضاء على تلك النهضة الوطنية. وبدأت تقارير الأمن فى مصر تشير إلى نية العرابيين فى عزل الخديو وإعلان الجمهورية، ومما ورد فى هذه التقارير نقتطف الفقرة التالية: «الشائعات العمومية مقتضاها أن عزل الخديو متفق عليه، وإنه فى هذا الأسبوع يصدر قرار نواب الأمة المصرية بذلك، ولقد ذهب بعض الناس إلى أنه بعد عزل الخديو ستطلب الأهالى تنصيب حكومة جمهورية ويكون رئيسها سعادة أحمد باشا عرابى، وقال بعض الناس إن مساعى الباب العالى ستكون فى تنصيب عباس بك نجل الخديو مع تعيين قائمقام لينوب عنه فى الوزارة، والبعض قال إن الدول متحدة فى إعادة الخديو السابق ماعدا فرنسا، وآخر قال إن البرنس حليم هو الذى سيتعين للخديوية المصرية...» لقد دفعت هذه الشائعات توفيق إلى إلقاء كل أوراقه فى أيدى القوى الأوروبية، فتآمر مع الإنجليز على غزو مصر لتثبيته على كرسى الحكم والقضاء على العرابيين. وفى صيف سنة 1882 بدأ تنفيذ الخطة البريطانية لاحتلال مصر، بعد أن زالت آخر العقبات أمامها وهى المعارضة الفرنسية، وكان ثمن سكوت فرنسا على احتلال بريطانيا لمصر تغاضى إنجلترا فى المقابل عن الاحتلال الفرنسى لتونس. وفى يوليو 1882 ضربت السفن البريطانية الإسكندرية وتمكنت من احتلال المدينة التى كان الخديو يقيم بها فى ساعات قليلة، وكان الموقف حرجا على كل المستويات فانسحب الجيش المصرى من المدينة وأعاد بناء تحصيناته المتبقية عند كفر الدوار. أما الموقف المالى للعرابيين فقد كان شديد الحرج ويقول عرابى فى مذكراته: «لم يكن فى خزينة الحكومة مالا ما، لأن السير كلفن المراقب المالى الإنجليزى أخذ الأموال الموجودة فى خزانة المالية وأنزلها بالأسطول الإنجليزى قبل إعلان الحرب بأيام، وكذلك الأموال الموجودة بصندوق الدين حملها أعضاء القومسيون إلى السفن الحربية بالإسكندرية... فكان على أن أسعى لتدبير الأموال اللازمة لمواجهة أعباء المعركة فأصدرت قرارا بجمع مبلغ عشرة قروش عن كل فدان زراعى على أن تخصم من ضرائب الأطيان، كما دعوت القادرين إلى التبرع...» وقد كانت الاستجابة رائعة لدعوة عرابى فيذكر جون نينيه رئيس الجالية السويسرية فى مصر فى كتابه عن عرابى أنه: «فى كل يوم كانت ترد إلى معسكر الجيش فى كفر الدوار إعانات الأهلين من النقود والقمح والشعير والحبوب والسمن والخضر والفاكهة والخيول والمواشى وقد أبدى أعيان الوجه البحرى والوجه القبلى أريحية كبيرة فى التبرع للجيش وفى مقدمتهم أحمد بك المنشاوى زعيم طنطا الوطنى....» ويذكر عرابى فى مذكراته: «إن موسى بك مزار تبرع بألف وثلاثمائة ثوب بفتة وثلاثين عجل بقر...وإن بعض الأهالى تبرع بنصف ما يمتلك من الغلال والمواشى وإن منهم من خرج عن جميع ما يمتلكه ومن قدم أولاده للدفاع عن الوطن العزيز لعدم قدرته على القتال بنفسه....» وقد كانت الاستجابة رائعة لدعوة عرابى من جميع فئات الأمة كما تكشف مذكرات عرابى عن الدور المهم الذى لعبته نساء مصر فى المعركة وفى مقدمتهن سيدات أسرة محمد على... «فقد تبرعت الوالدة باشا أم الخديو المعزول إسماعيل بجميع خيول عرباتها، واقتدت بها سيدات العائلة الخديوية وكثير من زوجات الباشاوات كحرم خيرى باشا رئيس الديوان الخديوى وحرم رياض باشا رئيس النظام السابق، وكثير من الذوات والسيدات اللاتى قدمن الأقمصة والأربطة اللازمة للجرحى...» وكان تكاتف الأمة بكل طبقاتها وفئاتها باستثناء حفنة قليلة من أتباع الخديو والمتواطئين مع الإنجليز، وراء صمود الجيش المصرى فى مواجهة الإنجليز فى الجبهة الشمالية الغربية، ونجحت التحصينات المصرية فى صد تقدم الجيش البريطانى عند كفر الدوار، فلجأ إلى الالتفاف من الشرق من قناة السويس، وكان فرديناند دليسبس رئيس شركة قناة السويس قد وعد عرابى بأنه لن يسمح للسفن البريطانية بالمرور عبر القناة، لكنه لم يف بوعده بالطبع، فكانت موقعة التل الكبير التى انتهت بهزيمة الجيش المصرى فى 13 سبتمبر، وشهدت معركة التل الكبير خيانة بعض الضباط لعرابى، فنجح الجنرال ولسلى فى هزيمته، وردد المصريون مقولتهم الشهيرة: «الولس هزم عرابى» والولس هو ولسلى لكنه فى ذات الوقت الولس بمعنى الخيانة. وفى يوم 14 سبتمبر دخل الإنجليز القاهرة ونجحوا فيما فشلوا فيه عام 1807، ليدوم وجودهم العسكرى فى البلاد 74 سنة. فما المحصلة النهائية للثورة؟ لقد اصطدمت الثورة العرابية بالأطماع الأوروبية التى كانت أقوى من قدرات عرابى على مواجهتها فانتهى الأمر إلى الهزيمة المريرة، وبغض النظر عن نتيجة معركة التل الكبير وما أعقبها من احتلال أجنبى دام أكثر من سبعين عاما، فقد كان عرابى زعيما ساقته الأقدار لمواجهة قوى عاتية، والتفت حوله قلوب الأمة وتصدى بشجاعة لقيادتها فى ظروف صعبة، وستظل له مكانته فى وجدان المصريين وسيبقى له شرف المحاولة والسعى لإنجاز مشروع النهضة الوطنية فى مصر فى القرن الماضى.