ذكرنا سابقا تصورنا أن الخلاف بين الفقهاء الذين يعتد بهم فى موضوع تصنيف الحديث النبوى إلى تشريع وغير تشريع هو خلاف لفظى لا أكثر بسبب عدم ضبط مصطلح التشريع. فالفقهاء يعتبرون التشريع هو: الأمر أو النهى اللازم تحليلا وتحريما فى مستوى الفرض وكذلك المستحب فعله أو المكروه فى مستوى السنة المقتدى بها. أما أهل الحديث والدعوة فالتشريع عندهم بمعناه العام شاملا الحلال والحرام والمستحب والمكروه والمباح من النصائح والتربية الأخلاقية والصلح والاستشارة باعتبار أن كل ذلك فعله وقاله النبى (صلى الله عليه وسلم). وكل ما صح نسبته للنبى فلا شك أنه مشروع وحق، ومقبول، وجائز لا جدال فى هذا ولتصفية هذا الجدل والخروج منه يجب وضع اسم خاص لكل مسمى يميزه حتى لا تتشابه الأمور وللتفريق بين الملزم المفروض طاعة لله وللرسول (صلى الله عليه وسلم) وبين النصح والتوجيه أو التعليم لحالة من الحالات فى ظرف من الظروف. والتشريع إما عام يلزم جميع المكلفين كالصلاة والزكاة، وإما خاص مثل فتواه (صلى الله عليه وسلم) لهند زوجة أبى سفيان بقوله: «خذى من مال زوجك ما يكفيك وولدك بالحق»، فهذا ليس تشريعا عاما، ولكن أولهما تشريع خاص بسلطات قائد الجيش والآخرى تشريع خاص للمفتى يفتى به إذا تحقق من تماثل العلة فى الحكم. وماعدا التشريع العام والخاص فهو إما شئون بيئية، أو خاصة، أو ممارسات اجتماعية، أو صفة للنبى ذكرها المحدثون لإعلام الناس بهيئة النبوة ومجتمعها، فإذا وصفت ثياب النبى (صلى الله عليه وسلم) بأنها بيضاء فإنه وصف لهيئته (صلى الله عليه وسلم) وملبسه تماما كما ذكر أن مسجده (صلى الله عليه وسلم) بنى بالحجر والخشب، فلا سنة فى كلتا الحالتين، فالثياب البيضاء كانت عادة العرب قبل الإسلام وبعده يلبسونها لرخصها ولمناسبتها للبيئة الحارة، وكذلك المسجد النبوى قد بنى بما أتاحته البيئة وقتها من مواد. ومن شئونه (صلى الله عليه وسلم) الشخصية البحتة قوله «حبب إلىّ من دنياكم الطيب والنساء»، فليس من السنة المستحبة تعدد الزوجات إلا إذا لزم، ولا استعمال الطيب إلا لمن يقدر عليه بيسر. وأحاديث أخرى جاءت فى مقام النصح والإشراد (دون إلزام) كما روى عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه كاد يحرق بيوت أقوام لا يحضرون صلاة الجماعة بالمسجد، والحديث صحيح فماذا منعه (صلى الله عليه وسلم) من فعل ما قال؟ لا شك أن الذى منعه (صلى الله عليه وسلم) من حرق بيوت تاركى الجماعة عدم إذن ربه له، لكنه (صلى الله عليه وسلم) قد نصح ووعظ وبالغ فى تخويف المستهترين فعلم أهل الفقه أن تارك الجماعة لا عقاب عليه ولا لوم بل يحتاج إلى تهيئة مناخ وشرح صدر وعظة من واعظ محبوب لديه يقول ويفعل. وأهل الحديث إذ يسمون كل هذه الأنواع تشريعا فإنما ينزهون كلامه (صلى الله عليه وسلم) أن يكون فيه شىء غير مشروع. ونريد أن نفرق بين هذه الأحاديث فنجعل الاصطلاح اصطلاحين: الشرعية: هى الأحاديث التى تؤدى الوظيفة التشريعية بمستويين: 1 مستوى الفرض: الواجب المفروض والمحرم. 2 مستوى السنة: المستحب والمكروه. وغير هذين المستويين من الأحاديث فيمكن إدراجها تحت مصطلح المشروعية: بمعنى جواز الفعل إذا تشابهت الظروف مع تلاشى الحرج إذا لم يلتزم به وهذا ما يعبر عنه الفقهاء باصطلاح «الجائز».