يقف جحا حائرا يفكر فى مقصده بصحبة حماره وابنه، حتى يقرر أن يركب الحمار ويسير ابنه بجواره، ثم ينزل ويخلى ظهر الحمار لابنه، ثم يصعد مرة أخرى خلفه على ظهر الحمار، وأخيرا ينزل كلاهما، لحمل الحمار. مفردات هذه الحكاية الشهيرة، لم تكن مسطورة فى صحف، بل نقشت على قطعة قماش متوسطة الطول والعرض، هناك فى أحد دكاكين شارع الخيامية أمام باب زويلة بالدرب الأحمر، حيث كل شىء، مصنوع يدويا، ولا مجال لمنافسة المنتجات الصينية. الخيامية هى أحد أقدم الصناعات المصرية الأصيلة التى ارتبطت بالشهر الكريم، لأنها تشمل صناعة شوادر موائد الرحمن والخيام الرمضانية، وفراشات «التارج»، إلا أن عالمها الواسع لم يقف عند تلك «الأتواب» من القماش فقط، بل امتد ليشمل عالم الحكايات والأساطير الشعبية، الواقعى منها والخرافى، التى نقشت بدقة متناهية بجميع الألوان والخامات القماشية، حيث لا مجال للسهو والتيه، بدءا من عالم البحار وأسراره وألوانه الزاهية، مرورا بالسماء وطيورها وتدرج ألوانها، وصولا لعالم البادية وما تحويه من جمال وصحراء وآبار وواحات. يمتد تاريخ هذه المهنة إلى العصر الفرعونى ولكنها بالتأكيد أصبحت أكثر ازدهارا فى العصر الإسلامى ولاسيما العصر المملوكى. وقد كانت ترتبط الخيامية قديما بكسوة الكعبة المزينة بخيوط الذهب والفضة، والتى كانت تقوم مصر بتصنيعها حتى فترة ستينيات القرن الماضى وإرسالها للحجاز قى موكب مهيب يعرف باسم المحمل. وقديما كانت هناك طقوس خاصة لاعتماد أى حرفى خيامى جديد ينضم لتلك الطائفة حيث كان يتم اجتماع الخيامية وشيخهم لرؤية وفحص أعمال الخيامى الجديد، فإذا كانت على المستوى المطلوب يقيم الحرفى مأدبة اعتماد لجميع الخيامية للاحتفال بانضمامه للمهنة. استطاع شارع الخيامية الضيق الذى يحتوى على ما يقرب من 30 دكانا، جميعها متخصصة فى صناعة الخيامية اليدوية، أن يجمع بين الثقافات على مر العصور، ما بين فرعونى وقبطى وإسلامى، كما قال حسام فاروق، صاحب دكان خيامى، الذى أضاف أن المشترى الأجنبى يفضل قطع الخيامية الزاخرة برسومات زهرة اللوتس الفرعونية خاصة الأمريكان والألمان، فيما يحرص المشترى العربى خاصة من دول الخليج وليبيا على شراء الخيام، التى قل صنعها بنسبة 1% عن الأعوام الماضية، قائلا «الخليجى بيحب يتمنظر بخيمة ضخمة غالية لأنها صناعة يدوية خالصة»، فيما يؤكد فاروق أن المشترى المصرى لا يدرك قيمة هذا الفن المتقن ويندر تردد المصريين على دكانه لشراء هذه القطع الفخمة، واختزل فاروق إجمالى المستهلكين المصريين لهذه الصناعة لنسبة 5% من إجمالى جمهورها العام. أكد فاروق الذى يعمل فى «صنعة» الخيامية منذ أكثر من ثلاثين عاما، أن الإقبال على الشوادر والتوارج المطبوعة وليست المصنوعة يدويا يكثر فى شهر رمضان المبارك، نظرا لاستخدامه فى الخيام الرمضانية وموائد الرحمن، أما قطع الخيامية المصنوعة يدويا فيرتبط تسويقها بالمواسم السياحية فى مصر صيفا وشتاء. طباعة الشوادر والتوارج ظهرت منذ ما يقرب من ثلاثين عاما، كما أكد أغلب من يعمل فى هذه الصناعة، وهى صناعة آلية ليست يدوية لأتواب القماش المستخدم فى فراشات الأفراح والمعازى والخيام وغيرهما. يروى أن صناعة الخيامية ظهرت منذ أكثر من 600 عام، حيث ارتبطت ظهورها مع بناء مبنى الخيامية الأثرى ذاته، ويؤكد آخرون قدماء فى الصنعة ورثوها أبا عن جد، أن جدودهم احترفوا هذه الصناعة منذ أكثر من مائتى عام، مضيفين «الله أعلم لو كانوا ورثوها أيضا عن آبائهم وأجدادهم». مداخل الغورية وأسواقها العشوائية، والكثافة المرورية والزحام الشديد، جميعها أسباب أدت من وجهة نظر فاروق، إلى إهمال هذه الصناعة الأصيلة وعدم الإقبال عليها قائلا: «الأسواق صعبت على السياح الوصول لينا بعدما كانوا يرونا من بداية شارع الغورية». المهنة ليست مهددة بالانقراض، بشهادة مجموعة كبيرة من أصحاب دكاكين الخيامية، حيث قال فاروق إن السيدات اقتحمن المجال منذ عدة سنوات، خاصة مع حرص الجمعيات النسائية والمجتمع المدنى على تعليمهن حرفا يكسبن منها عيشا، مؤكدا عدم منافستهن لهم، كما قال إن أبناء الحرفيين يدخلون الصنعة باستمرار منذ نعومة أظافرهم، فضلا عن أن طلاب كلية الفنون الجميلة يدرسون الخيامية فى بعض سنوات دراستهم، وأن ال«خايبين» منهم على حد قوله، يلجأون لحرفية الخيامية لإنجاز مشاريع تخرجهم. وزارة الصناعة بدأت مؤخرا بالتعاون مع بعض رجال الأعمال فى تنظيم معارض لمنتجات الخيامية، بحسب فاروق، الذى أكد أن تكلفة تسويق منتجات الخيامية داخل الأسواق التجارية الضخمة فى مصر وخارجها يتكلف أموالا طائلة، إلا أن الجهود التنسيقية المؤخرة بين وزارتى الصناعة والثقافة وبالتعاون مع بعض رجال الأعمال، خلقت حالة من الرواج التجارى لمنتجات الخيامية التى لا تنشط سوى فى المواسم السياحية وشهر رمضان. الهيئة العامة للآثار هى المسئول الأول عن منطقة ومبنى الخيامية، باعتباره مبنى أثريا، إلا أن مجموعة من أصحاب الدكاكين والمحال اشتكوا عدم اهتمام الهيئة بالمنطقة وبحرفتهم المرتبطة بالسياحة، حيث قال فاروق «لما فاروق حسنى بييجى بيقفلوا المحلات العشوائية فى الغورية كلها أثناء زيارته وخلاص»، مؤكدا أن التطوير الأخير فى شارع الخيامية كان منذ ما يقرب من عشر سنوات حينما قامت الهيئة بإخلاء مبنى الخيامية من سكانه خوفا من تأثير المياه المستهلكة على سلامة المبنى، لذا تم إخلاؤه، مع الإبقاء على المحال والدكاكين القليلة فى الأسفل مع وضع عدة شروط مثل «عدم دق المسامير فى الجدران، وعدم وضع البلاط أو السيراميك فى أرضيات المحال»، وغيرها من الشروط المتعلقة بالحفاظ على سلامة المبنى. أثناء حديث «الشروق» مع مجموعة من أصحاب المحال والدكاكين فى الخيامية ترددت مجموعة من الجمل التى حملت دلالات ومعانى وجب التوقف عندها، مثل «زعيط ومعيط ونطاط الحيط بقوا يشتغلوا خيامية»، قالها السيد مختار الخيمى، أحد أقدم محترفى صنعة الخيامية، ليلوح بها عن عدم كفاءة «الصنايعية» هذه الأيام، مما أدى إلى وجود عيوب صناعة فى منتجاتهم، مما يؤثر سلبا على أسعارها، الجملة الثانية كانت «الفقر باين فى عيون الناس» قالها محمد قرورة، صاحب أحد محال الخيامية، ليدلل بها على أسباب عزوف المصريين عن شراء المنتجات الخيامية التى تتميز بأسعارها المرتفعة، الجملة الثالثة كانت على لسان حسام فاروق وهى «الصين مش ممكن تدخل المجال ده»، ليغلق الباب أمام أية منافسة خارجية قد تؤثر على صناعة مصرية أصيلة خالصة، قل وجودها فى زمن «صنع فى الصين».