لم يكن اللقاء مع المخرج توفيق صالح والفنان التشكيلى جميل شفيق مجرد استرجاع ذكريات آخر حرافيش نجيب محفوظ، بل كشف عن ملامح جديدة لصاحب نوبل الذى تحلق الأصدقاء حوله من كل صنف ولون، ورغم اختلاف آرائه وتوجهاته مع أصدقائه على مر الزمن إلا أن الصداقة كانت دائما هى الطوطم الذى يتجاوز به أى تمايز، فكما جاء على لسان أحد شخصياته فى رواية قشتمر التى تحتفى بمرور سبعين عاما على مجموعة من الأصدقاء «وشهدنا الأحداث تباعا فطرأ الخلاف بين سعد وعدلى على وحدة الثورة، ووجدنا طاهر فى جانب وبقيتنا فى جانب آخر، كما اختلفنا سابقا حول ماشست وفانتوم، ولكننا بخلاف الزعماء حافظنا على مودتنا وصداقتنا الباقية». عبر الهاتف جاء صوت توفيق صالح دمثا مرحبا بأى شىء يتعلق بصديق عمره نجيب محفوظ، وكيف يتأخر عن الاحتفال بعيد ميلاد «نجيب»، وهو الذى زامله فى جلسات الحرافيش على مدى أربعين عاما كاملة، يلتقون مع ثلة من الأصدقاء كل خميس بشكل منتظم يكاد يكون مقدسا لم يقطعه سوى سفر توفيق صالح للخارج من منتصف السبعينيات وحتى 1984. يؤكد بأدب جم «قصة الحرافيش كانت تهمنا نحن مجموعة الأصدقاء وكان لقاء أساسيا لكل منا، لكنى لا أظن أنها تهم القراء فى شىء». هل صحيح أنها مجرد قصة قديمة حتى وإن كانت تدور حول صداقة نموذجية لا تهم سوى أبطالها؟ أم أنه تواضع من قبل توفيق صالح الذى يرى فيها مجرد جلسات حميمية وكواليس لحياة أبطالها؟ «كنا نلتقى كل خميس ونقطع كل صلة بين جلستنا وما نقوم به طوال الأسبوع، نناقش الأمور العامة والخاصة ندردش ونمرح ونأكل وبعدها نقوم بجولة ليلية بإحدى السيارات نشترى الآيس كريم ونسمع الأغانى فى الطريق ثم يعود كل إلى بيته» كما يصفها صاحب «المتمردون». المؤكد أن مجموعة الحرافيش القديمة أو الأولى كما يطلق عليها التى استمرت حتى حادث الاعتداء على محفوظ فى ورحل العديد من أبطالها كانت نموذجا يحاول الكثيرون التقرب منه والانضمام إليه، وكم فتحت بالفعل ذراعيها للضيوف العابرين الذين لم يستطيعوا النفاذ/ الولوج من سياج الصداقة المحكم، وكم حاول الكثيرون الالتحاق بالحرافيش للحصول على جواز مرور سمح لهم بعد ذلك باختراق عالم الأدب والصحافة. غير أن جلسات الحرافيش كانت بالنسبة لأبطالها أنفسهم مثل مفجر للطاقات ومولد للهمم، والدليل على ذلك ليس فقط فى تميز كل فى مجاله (عادل كامل الروائى ذو الموهبة النادرة الذى حصل على جائزة مجمع اللغة العربية فى نفس العام مع محفوظ عن روايته ملك من شعاع، وأحمد مظهر الفارس والممثل القدير والمثقف المتميز، وتوفيق صالح فى إخراجه لأفلام معدودة لاتزال علامات فى تاريخ السينما العربية، وبهجت عثمان رسام الكاريكاتير الفذ ومحمد عفيفى الكاتب الساخر)، بل فى تناول محفوظ نفسه لموضوع الصداقة كتيمة أساسية لروايته قشتمر، حتى وإن اختلفت الأحداث بطبيعة الحال بين الواقع والخيال إلا أن الحرافيش كانت المصدر والإلهام ولنقل الطاقة المفجرة للعديد من إبداعات محفوظ. «تسير الأيام بلا توقف لا تعترف بهدنة أو استراحة، نحن نكبر، وحبنا يكبر، إن غاب أحدنا ليلة لعذر قهرى قلقنا وتكدرنا» كما يقول الراوى فى رواية قشتمر أو «واقتصر المجلس على خمستنا أصبحنا من معالم المقهى، وظل قشتمر أحب الأماكن إلينا بل هو المأوى الذى نخلو فيه إلى أنفسنا ونتبادل عواطف المودة». من هم الحرافيش؟ لا يرتبط اسم الحرافيش برائعة نجيب محفوظ «ملحمة الحرافيش»، لكنه اسم اختارته مجموعة الأصدقاء قبل حتى أن ينضم إليهم محفوظ، حينما كانوا يناقشون الكتب فى منتصف الثلاثينيات فجذب انتباههم فى كتاب رفاعة رافع الطهطاوى «تخليص الابريز فى تلخيص باريس» مقولة (ويجلس الحرافيش على القهاوى) وكانت كما يروى توفيق صالح مستخدمة بمعنى الطبقة الوسطى التى كانت ترتاد المقاهى الباريسية، وأحب الأصدقاء هذا الاسم وأطلقوه على جماعتهم، «لكن بعد ذلك ظهر أن للحرافيش معانى متعددة لا تنطبق علينا مثل الشخص غير النافع فى أى شىء، كما حاول البعض مقارنتنا بمجموعة الأصدقاء أبطال رواية ثرثرة فوق النيل فى اجتماعهم بالنساء فى هذه الحلقات، لكننا للأسف يضحك المخرج الكبير كنا نجتمع رجالا فقط». أما الفنان جميل شفيق الذى انضم إلى الحرافيش بعد توفيق صالح بعقدين وتحديدا فى 1974 حينما دعاه صديقه بهجت عثمان إلى جلسة «حرفشية» فيعرف الحرافيش بصفتها مجموعة أصدقاء أساسها الرجال يتقابلون كل خميس يجمعهم الود وسرعة التواصل ويتميزون بحب الفكاهة. ويسترجع شفيق معلوماته عن بداية الحرافيش قائلا: «فى 1936 التقى الروائى عادل كامل أحمد مظهر على ظهر مركب متوجهة إلى برلين للمشاركة فى دورة الأوليمبياد، مظهر بصفته بطل فروسية وكامل ممثلا لطلبة الجامعات المصرية، تصادق الاثنان واتفقا على الالتقاء كل خميس ومناقشة أحد الكتب فى كل مرة، وفى بداية الأربعينيات تعارف محفوظ وعادل كامل وانضم إليهم لكنها بدأت تبتعد عن فكرة الصالون الثقافى وتأخذ طابعا أكثر حميمية يختلط فيه العام بالخاص». « درب المهابيل» الفيلم الذى أنتج صداقة حرفشية وفى 1954 كان الشاب توفيق صالح قادما من فرنسا وقد كتب فكرة معالجة سينمائية وكان معجبا بإنتاج محفوظ فى السينما من كتابات متميزة تختلف عن السرد السائد وقتذاك، فذهب يعرض عليه ما كتب فأعطاه محفوظ موعدا «بعد جمعة»، ثم قال له بعد القراءة : «بهذا الشكل سنجد العديد من المشاكل مع الرقابة، لكنى أحب أن أعمل معك، أعطنى عشرة أيام آخرين وسوف أعيد صياغة النص». ويحكى توفيق صالح كيف كانت دهشته حين عاد وقابل محفوظ فوجد سيناريو «درب المهابيل» وقد كتبه من تسعة مقاطع وغير الشخصيات تماما فتحول الشاب خريج الهندسة إلى صبى عجلاتى، وكانت دهشته أكبر حين صحبه محفوظ إلى سيدنا الحسين وجلسا على الفيشاوى ثم قاده بعدها إلى حارة معدمة لا تثير أى خيال أو تشى بأى سحر وأشار إلى إحدى الشرفات وقال له «هنا شباك حميدة وهنا المقهى الذى يدور فيه الأحداث، هذا ما كتبت عنه». ولم يكن توفيق صالح قد قرأ بعد «درب المهابيل»، وبعد قراءتها تحولت الدهشة بمحفوظ إلى انبهار، فيصرح صاحب «المخدوعون»: «اكتشفت كيف يصنع محفوظ نسيج فنى محكم ويقيم عالما روائيا عظيما يختلط فيه التاريخ بالخيال بالرمز من مجرد تفصيلة بسيطة لا تحرك أى خيال». وبعدها اشتركا فى كتابة السناريو وحين عرض فيلم درب المهابيل لم يلق إعجاب محفوظ وبعد فترة أشاد به بل منحه جائزة إخراج حينما كان عضوا للتحكيم فى إحدى المسابقات. انضم توفيق صالح لمجموعة الحرافيش وظلوا مواظبين كل خميس على اللقاء فى نحو السابعة فى منزل أحد الأصدقاء «وكان البيت الذى نجتمع فيه مثل جزيرة بعيدة عن كل شىء» كما يسترجع صالح الذى ظل محافظا على لقائه الثنائى بالأستاذ حتى بعد أن حال الموت بينهم وبين باقى الأصدقاء، وفى الجولة التى يحرصون عليها بالسيارة كانوا يستمعون إلى أغانى الزمن الجميل أم كلثوم الثلاثينيات وكان محفوظ يحب أغنية عبدالوهاب «من قد إيه كنا سوا من شهر فات واللا سنة...».