هذه مهزلة إدارية وإنسانية أخرى يصعب أن تمر مرور الكرام، وهى لا تخص صاحبها بقدر ما تخص الهم العام لإصلاح منظومة الإدارة داخل مؤسسات الدولة. المشكلة بدأت عندما تقدم الشاعر حسن خضر، والذى يعمل مدرسا بوزارة التربية والتعليم، للحصول على منحة التفرغ التى تعطيها وزارة الثقافة للفنانين والأدباء المصريين، ممن تراهم يستحقون التفرغ لأداء مهمتهم الأدبية تجاه هذا البلد. وبالفعل صدر القرار الوزارى بالموافقة على منح خضر التفرغ لعام 2010/2011، بتاريخ 27 يونيو الماضى، من إدارة التفرغ بالمجلس الأعلى للثقافة، وتسلم الرجل الخطاب الموجه إلى السيدة «مديرة إدارة مصر القديمة التعليمية»، ونظرا لأن السيدة المذكورة كانت فى إجازة، تسلمت الخطاب موظفة أخرى تنوب عنها، ووقع عليه بالموافقة كل من مدير شئون العاملين والمدير المالى بالإدارة. مرت الأيام، وعادت مديرة الإدارة التعليمية من إجازتها، وعندما عُرض عليها الأمر، رفضت التوقيع على الخطاب الذى وقع عليه مدير شئون العاملين والمدير المالى، واكتفت بالتوقيع على خطاب مرفق، مما اعتبره المدير المالى خوفا من تحمل المسئولية، فتقدم خضر للمديرة المذكورة للتوقيع بنفس المكان الذى وقع فيه زملاؤها ولكنها رفضت قائلة: «أنا معرفش يعنى إيه تفرغ، أنا أعرف إنه فيه إجازة بدون مرتب، أو إعارة أو انتداب، لكن معرفش إن فيه حاجة اسمها تفرغ، ومش هقدر أتحمل مسئولية حاجة معرفهاش»، وفشلت كل محاولات إقناعها بأن هناك ما يسمى بمنحة التفرغ، لدرجة أن مدير شئون العاملين شرح لها الأمر، وأن القرار يتم وضع صورته فى دفتر الحضور والانصراف ومعه موافقات مديرية التربية والتعليم التابع لها المتفرغ، وأن هذا متبع قانونا، وأفهمها أن خطاب وزارة الثقافة واضح تماما ومذكور به أن وزارة الثقافة سوف تقوم بتسديد «جميع الاستقطاعات الواردة بالنموذج الخاص بمفردات راتبه، واتخاذ الإجراءات اللازمة بشأن صرف راتبه طرفنا». ولكن السيدة مديرة إدارة مصر القديمة التعليمية أصرت على عدم الاقتناع، ودعم خوفها بشكل غير مباشر المدير المالى، فاعتذرت للشاعر حسن خضر عن عدم الموافقة وطلبت منه أن يأتى من وزارة الثقافة بخطاب آخر يكون موجها لشخص أعلى منها منصبا؛ لأنها «لا تفهم ما هى منحة التفرغ». وبالفعل رجع خضر إلى إدارة التفرغ بالمجلس الأعلى للثقافة، فتعاونوا معه وأعطوه خطابا آخر موجها للسيد مدحت مسعد مدير إدارة التربية والتعليم بالقاهرة، الذى تعنت هو الآخر ورد بأنه «معنديش تفرغ»، وحاول خضر أن يشرح لمسعد أن منحة التفرغ أمر معمول به منذ ما يقرب من نصف قرن: «حضرتك أمام شاعر مصرى، سيترك عمله بالوظيفة الحكومية فى الدولة، لكى يكتب ديوان شعر ويسلمه للدولة أيضا، وذلك بناء على لوائح التفرغ»، ولكن السيد مسعد رد عليه مستاء من الكلام «معنديش حاجة اسمها تفرغ». لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن ما أثار دهشة خضر بشدة وبدا مذهولا وهو يتحدث مع «الشروق»، أن مدير إدارة التربية والتعليم قال له: «تستطيع أخذ إجازة بدون مرتب»، تعجب حسن خضر الذى نضيف إليه تعجبنا الشديد، يأتى من أن هذا يعد احتيالا على الدولة، وخروجا على القانون، فكيف يتقدم الرجل لأخذ منحة تفرغ ويتقاضى راتبا من مؤسسة حكومية هى وزارة الثقافة على أساس أنه متفرغ للكتابة، وهو فى إجازة بدون راتب من مؤسسة حكومية أخرى هى وزارة التربية والتعليم. وانتهى الأمر بأن وجه مدير الإدارة التعليمية حسن خضر إلى ديوان عام الوزارة لإبداء الرأى فى المسألة، وهى أيضا مسألة مربكة، فكيف لوكيل وزارة التربية والتعليم أن يقف مستوى وعيه عاجزا عن فهم ماهية منحة التفرغ، وينتظر من مدير شئون العاملين بالوزارة أن يفهمها هو!! وبالطبع أبت البيروقراطية أن تقف عند هذا الحد، فعندما ذهب حسن خضر إلى ديوان عام الوزارة بعد أيام لاستبيان حال أوراقه، كان من المفترض أن يقابل مدير شئون العاملين بالديوان العام ويدعى محمود الشحات، ولكنه فوجئ بأن مقابلة مدير شئون العاملين مسألة ليست سهلة وعليه أن يتعامل مع موظف فى مكتبه يدعى هاشم، وعندما تحدث معه قال إن أوراقه لم تصل إليه إلى الآن ولكنه بشره بأنه سوف يرفضها بالتأكيد وكرر الجملة المأثورة التى سمعها حسن خضر من كل من تعامل معهم بوزارة التربية والتعليم «معنديش حاجة اسمها تفرغ». الغريب أن الخطاب الصادر عن وزارة الثقافة وافق عليه الموجه العام لمادة اللغة العربية بإدارة مصر القديمة باعتبار أن هناك زيادة فى مدرسى هذه المادة «ولا مانع من التفرغ». بجانب كل تساؤلات الشاعر حسن خضر واستفساراته، نضع دهشتنا واستفساراتنا أمام الدكتور أحمد زكى بدر وزير التربية والتعليم، والذى وقع مؤخرا اتفاقية تعاون بين وزارته وبين وزارة الثقافة ل«تنسيق الجهود بين الوزارتين من أجل الارتقاء بوعى طلاب المدارس بالقيم الجمالية المعمارية والعمرانية وحثهم على الحفاظ على ثروة مصر من التراث الحضارى والفنى»، أتتجزأ المبادئ يا سيادة الوزير، فكيف نعمل على تنمية الثقافة والوعى لدى طلاب المدارس، ومسئولو التعليم فى مصر لا يعرفون أن هناك ما يسمى بمنحة التفرغ؟!