عندما قرر مخبران من قسم شرطة سيدي جابر بالإسكندرية أن يعتديا بالضرب على الشاب خالد سعيد، 28 عاما، لم يخشيا أحدا من المارة، ذلك أن أحدا ممن رأوا الحادث لم يحرك ساكنا، وهم يشاهدون الشاب يموت أمامهم من الضرب! لكن الأمر اختلف بعد موت خالد سعيد، فقد اندلعت الوقفات الاحتجاجية والمظاهرات في كل أنحاء مصر، منذرة بنيران الثورة في نفوس المصريين، التي بدأت في الانتشار بسبب مقتل شهيد الطوارئ. وقالت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، أن المخبرين قتلا خالد سعيد لأنهما يعرفان أن لا وجود لحقوق الإنسان في مصر، وأن أحدا لن يحاسبهما على ما فعلاه، مهما كان، فالسلطات الأمنية في مصر لديها صلاحيات مطلقة ممنوحة لهم من الحكومة، ونادرا ما تتم محاسبة أي ضابط في حال اعتدائه على أي مواطن. وبررت وزارة الداخلية مقتل خالد سعيد بابتلاع لفافة بانجو، كان من الممكن أن ينتهي الأمر عند هذا الحد، شأنه شأن كثير من المصريين الذين قتلوا في أقسام الشرطة المنتشرة بمصر، لولا أن صورة واحدة لخالد سعيد وهو مشوه الملامح تقريبا بسبب تشوهها بالكامل تم نشرها على الانترنت، وأشعلت كل الثورة المكبوتة في نفوس المصريين. وبعد أسابيع من الاحتجاجات المتتالية والتظاهرات التي لا تنتهي والوقفات الصامتة، استجابت السلطات وأمرت بالقبض على المخبرين المتهمين ومحاكمتهما جنائيا بتهمة التعذيب والضرب المبرح، لكنها لم توجه إليهما تهمة القتل. وأصبح المعارضون ونشطاء حقوق الإنسان يأملون أن تصبح قضية خالد سعيد نقطة تحول في حملتهم الضارية على ثقافة الوحشية والاعتداء التي تنتهجها السلطات المصرية. واعتمدوا في ذلك على الأوضاع السياسية غير المستقرة، والصراع على الرئاسة، والأزمات المتتالية التي جعلت الحكومة تتخذ موقفا دفاعيا طوال الوقت. تقول عايدة سيف الدولة الناشطة بمجال حماية ضحايا التعذيب، إن سعيد "لم يكن مجرما، لم يكن إسلاميا، ولم يكن فقيرا فقرا مدقعا". لقد كان خالد سعيد مجرد شاب من الطبقة المتوسطة، وهناك الملايين مثله، ويمكن أن يتعرضوا لما تعرض له كل يوم، بينما من واجب الدولة أن تحميهم. ويرى نجاد البرعي محامي حقوق الإنسان المعروف، أن قضية خالد سعيد أثارت انتباه الرأي العام لما يمكن للمواطنين الأبرياء أن يتعرضوا له، وثمة دائما ضحايا لكل معركة. من ناحية أخرى، يقر الجميع أن تغيير وضع الشرطة التي تتدخل في كافة نواحي حياة المصريين أمر صعب. فضباط الشرطة يتحكمون في المرور، والتحقيق في الجرائم، ويتدخلون في الانتخابات، وحتى في إصدار شهادات الميلاد والوفاة وجوازات السفر! وطبقا لإحصاءات وزارة الداخلية، يزور أكثر من 60 ألف مواطن مصري أقسام الشرطة يوميا. وأضاف البرعي أن المخبرين هم غالبا الذين يعتدون بالضرب على المواطنين، كما حدث في حالة سعيد، وهم إما مأمورين من رؤسائهم بارتكاب هذه الأفعال أو مباح لهم فعل ما يشاءون. من جانبه، صرح حافظ أبو سعدة رئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان، أنه شارك في تدريس دورات حقوق الإنسان، وكانت المفاهيم الأكثر شيوعا بين طلابه هي أن الشرطة كل شيء، وفوق القانون، وفوق الدستور، ولا يمكن أن يحاسب أفرادها أحد! وأصبح الشباب في مصر يحاولون الالتحاق بالشرطة لما لأفرادها من صلاحيات مطلقة، وحماية وحصانة يفرضها المنصب. وفي هذا يقول محمود قطري العميد المتقاعد بالشرطة، إنه شاهد الفساد بعينه أثناء سنوات خدمته، وكان مما شاهده ضابط شرطة يخير امرأة فلسطينية ألقي القبض عليها وهي تهرب بضائع إما أن تضاجعه أو يسجنها، وغالبا ما يتم استجواب المتهمين عن طريق تعليقهم من أرجلهم وتقييدهم أو استخدام الضرب المبرح! ويؤكد نشطاء حقوق الإنسان دائما على أن مناخ الإفلات من العقاب انتشر كثيرا بين صفوف ضباط الشرطة خلال الثلاثين سنة الأخيرة، وهي نفس المدة التي كان لقانون الطوارئ الكلمة العليا فيها. وتكمن المشكلة في أن ضباط الشرطة يتم تعليمهم أنهم ممثلي الحكومة في كل مكان، وعليهم أن يكونوا يدها دائما، بدلا من أن يخدموا المواطنين، ويساعدوهم على استرجاع حقوقهم المسلوبة، وهو الأمر الذي ظهر جليا في حركة تغيير شعار الشرطة، التي تمت بطريقة ماكرة في عهد الوزير حبيب العادلي الذي يشغل المنصب منذ عام 1997، ليتحول من "الشرطة في خدمة الشعب" إلى "الشعب والشرطة في خدمة الوطن". ولعل أفضل ما يمكن أن يعبر عن وضع مصر الآن، هو فيلم "هي فوضى؟" الذي أخرجه يوسف شاهين وتم عرضه منذ سنتين. وكان يحكي عن أمين شرطة يعيث في الأرض فسادا، ويصرخ "أنا الحكومة" في محاكاة لتفشي الفساد والتعذيب في أقسام الشرطة وسلب حقوق المواطنين والاعتداء عليهم بدلا من حمايتهم. وانتهى الفيلم بأن ثار المواطنون، وكسروا الأبواب الحديدية، ليقتحموا قسم الشرطة، ويقتل أمين الشرطة نفسه بيده!