غدا.. "الشيوخ" يناقش خطط التوسع بمراكز التنمية الشبابية ودور السياسات المالية لتحقيق التنمية الاقتصادية    ارتفاع أسعار الذهب في مصر اليوم ونصائح للشراء    ألوان تخطف الأنفاس في أوروبا وأمريكا بعد ضرب عاصفة شمسية للأرض (صور)    بينهم شقيقان، انتشال 4 جثث بحادث تصادم ميكروباص بسيارة نقل بالطريق الدائري    حادثة عصام صاصا على الدائري: تفاصيل الحادث والتطورات القانونية وظهوره الأخير في حفل بدبي    توقعات تحسن الأحوال الجوية وانتهاء العاصفة الترابية في 14 مايو 2024    مصرع سيدة سقطت من شرفة منزلها أثناء نشر الغسيل لجرجا سوهاج    عمرو أديب: "لعنة مصر" هي الموظفون    تفاصيل إحالة 10 أطباء ورئيسة تمريض للتحقيق العاجل في أسيوط (صور)    بعد تعاونهما في «البدايات».. هل عاد تامر حسني إلى بسمة بوسيل؟    الشيبي يهدد لجنة الانضباط: هضرب الشحات قلمين الماتش الجاي    تعليق صادم من جاياردو بعد خماسية الاتفاق    بكام سعر الفراخ البيضاء؟.. أسعار الدواجن والبيض في الشرقية السبت 11 مايو 2024    780 جنيها انخفاضًا ب «حديد عز».. أسعار الحديد والأسمنت اليوم السبت 11 مايو 2024    شاروخان يصور فيلمه الجديد في مصر (تفاصيل)    بوكانان يوقع على هدفه الأول مع إنتر ميلان في شباك فروسينوني    حركة القطارات | 45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. السبت 11 مايو    المفتي يحسم الجدل حول حكم الشرع بإيداع الأموال في البنوك    تشكيل تشيلسي المتوقع أمام نوتينجهام فورست    كرم جبر: أمريكا دولة متخبطة ولم تذرف دمعة واحدة للمذابح التي يقوم بها نتنياهو    تفاصيل إعلان أمير الكويت حل مجلس الأمة وتوقيف العمل ببعض بنود الدستور.. فيديو    تعليم الجيزة تحصد المراكز الأولى في مسابقة الملتقى الفكري للطلاب المتفوقين والموهوبين    مصرع شخص صدمته سيارة طائشة في بني سويف    عمال الجيزة: أنشأنا فندقًا بالاتحاد لتعظيم استثمارات الأصول | خاص    التعليم العالي تعلن فتح برامج المبادرة المصرية اليابانية للتعليم EJEP    في أقل من 24 ساعة.. «حزب الله» ينفذ 7 عمليات ضد إسرائيل    إبراهيم سعيد ل محمد الشناوي:" مش عيب أنك تكون على دكة الاحتياطي"    مجلس الأمن يدعو إلى إجراء تحقيق مستقل وفوري في المقابر الجماعية المكتشفة بغزة    حريق ب «جراج» في أبو النمرس والحماية المدنية تمنع كارثة (صور)    الغرفة التجارية: توقعات بانخفاض أسعار الدواجن والبيض الفترة المقبلة    " من دون تأخير".. فرنسا تدعو إسرائيل إلى وقف عمليتها العسكرية في رفح    الهلال ضد الحزم.. أكثر 5 أندية تتويجا بلقب الدوري السعودي    زى النهارده.. الأهلى يحقق رقم تاريخى خارج ملعبه أمام هازيلاند بطل سوازيلاند    اليوم.. الاجتماع الفنى لمباراة الزمالك ونهضة بركان فى ذهاب نهائى الكونفدرالية    خبير دستوري: اتحاد القبائل من حقه إنشاء فروع في كل ربوع الدولة    موازنة النواب عن جدل الحساب الختامي: المستحقات الحكومية عند الأفراد والجهات 570 مليار جنيه    حظك اليوم وتوقعات الأبراج السبت 11 مايو على الصعيد المهنى والعاطفى والصحى    باليه الجمال النائم ينهى عروضه فى دار الأوبرا المصرية الاثنين    عمرو دياب يحيى حفلا غنائيا فى بيروت 15 يونيو    الزراعة: زيادة الطاقة الاستيعابية للصوامع لأكثر من 5 ملايين طن    أبناء السيدة خديجة.. من هم أولاد أم المؤمنين وكم عددهم؟    طائرات الاحتلال الإسرائيلي تقصف منزلًا في شارع القصاصيب بجباليا شمال قطاع غزة    تناول أدوية دون إشراف طبي النسبة الأعلى، إحصائية صادمة عن حالات استقبلها قسم سموم بنها خلال أبريل    القانون يحمى الحجاج.. بوابة مصرية لشئون الحج تختص بتنظيم شئونه.. كود تعريفى لكل حاج لحمايته.. وبعثه رسمية لتقييم أداء الجهات المنظمة ورفع توصياتها للرئيس.. وغرفه عمليات بالداخل والخارج للأحداث الطارئة    المواطنون في مصر يبحثون عن عطلة عيد الأضحى 2024.. هي فعلًا 9 أيام؟    رسائل تهنئة عيد الأضحى مكتوبة 2024 للحبيب والصديق والمدير    ل أصحاب برج الثور والعذراء والجدي.. من هم أفضل الأصدقاء لمواليد الأبراج الترابية في 2024    «أنصفه على حساب الأجهزة».. الأنبا بولا يكشف علاقة الرئيس الراحل مبارك ب البابا شنودة    النائب شمس الدين: تجربة واعظات مصر تاريخية وتدرس عالميًّا وإقليميًّا    هل يجوز للمرأة وضع المكياج عند خروجها من المنزل؟ أمين الفتوى بجيب    الإفتاء تكشف فضل عظيم لقراءة سورة الملك قبل النوم: أوصى بها النبي    الحكومة اليابانية تقدم منح دراسية للطلاب الذين يرغبون في استكمال دراستهم    نتائج اليوم الثاني من بطولة «CIB» العالمية للإسكواش المقامة بنادي بالم هيلز    5 علامات تدل على إصابتك بتكيسات المبيض    لأول مرة.. المغرب يعوض سيدة ماليا بعد تضررها من لقاح فيروس كورونا    غرق شاب في بحيرة وادي الريان ب الفيوم    هل يشترط وقوع لفظ الطلاق في الزواج العرفي؟.. محام يوضح    جلطة المخ.. صعوبات النطق أهم الأعراض وهذه طرق العلاج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السودان.. وغياب الدور المصرى
نشر في الشروق الجديد يوم 27 - 06 - 2010

لا أتصور غياب مصر عن شىء يخص السودان.. قد تغيب مصر الدور والموقف فى قضايا كثيرة وقد غابت بالفعل عن أحداث مهمة ولكن غيابها فى هموم السودان شىء آخر.. وقد نختلف حول أولويات كثيرة فى قائمة العلاقات المصرية الخارجية.. قد نختلف حول العلاقات المصرية العربية.. وقد تسبق بعض الدول من حيث الأهمية والتأثير دولا أخرى.. وقد تتداخل لغة المصالح أحيانا فتبعد هذا وتقرب ذاك وقد تتداخل أطراف خارجية لتقيم محاور هنا أو تكتلات هناك.. ولكن المؤكد أن للسودان مكانا ومكانة خاصة جدا فى تاريخ العلاقات الخارجية المصرية..
من هنا كان حزنى شديدا أن تغيب مصر عن توقيع اتفاق للسلام بين الحكومة السودانية وحركة العدل والمساواة فى دارفور بعد معارك دامية وصراع طويل وأن يتم الاتفاق تحت رعاية قطر وتشاد.. لا أحد يستطيع أن ينكر الجهد والدور اللذين قامت بهما حكومة قطر أو المهمة الصعبة التى قامت بها حكومة تشاد.. ومهما كانت الظروف فإن غياب مصر فى هذا الاتفاق سواء فى الدوحة أو تشاد كان شيئا يدعو للحزن والأسى..
أمامى عشرات الأسباب التى تجعل غياب مصر عن الشأن السودانى فى أدق تفاصيله شيئا غير منطقى وغير مقبول بل إنه ضد مصالح مصر على كل الاتجاهات..
إذا وقفنا أمام الأسباب الجغرافية فنحن أمام سجل حافل من الخرائط والمواقع والروابط التى تضع العلاقات بين مصر والسودان فى مكان خاص جدا.. هل هو الامتداد الجغرافى والعمق الإستراتيجى بين دولتين قريبتين لا تفصل بينهما أنهار أو جبال أو موانع طبيعية؟.. هل هو العمق الإنسانى الذى وحد الشعبين وجعل صعيد مصر جزءا من شمال السودان أو جعل وادى حلفا والجزيرة جزءا من جنوب مصر.. هل هو التداخل السكانى الذى جعل القبائل السودانية جزءا متوحدا مع القبائل المصرية فى الجنوب أم هو تداخل الأنساب بين مصر والسودان وأكثر من أربعة ملايين سودانى يعيشون بيننا كأننا أسرة واحدة؟.. هل هو النيل، هذا الشامخ العملاق الذى امتد فى شرايين أبناء وادى النيل فوحد بينهم زمانا طويلا فى الهموم والأفراح والمحن والانتصارات والانكسارات ووقف متحديا الزمن والظروف والأحداث؟..
أسباب أخرى كثيرة غير الجغرافيا والتاريخ والنهر العريق وحدت مصر والسودان.. ولهذا لم يكن غريبا أن يقف النحاس باشا زعيم الوفد قبل قيام ثورة يوليو ويقول: تقطع يدى ولا يفصل السودان عن مصر.. نحن جميعا نؤمن بمبدأ استقلال الشعوب وحرية الأوطان، ولكن مصر والسودان لم يكونا وطنين لكى يتحرر أحدهما من الآخر ولم تكن مصر تحتل أرض السودان حتى يعلن استقلاله عنها، ولهذا فإن البعض يرى وأنا منهم أن انفصال السودان عن مصر بعد ثورة يوليو كان من أكبر خطايا الثورة.. كان ينبغى أن تبقى وحدة البلدين فوق كل الحسابات وأكبر من كل التحديات.. لقد هلل العالم كله لقيام الوحدة بين مصر وسوريا وكان الانفصال درسا مؤلما.. ولكن السودان، المصير والمستقبل والحماية كان ينبغى أن يبقى جزءا من مصر وتبقى مصر جزءا من السودان فقد وحدهما النيل، ومن يوحده هذا العملاق لا ينبغى أن يفرقه أحد.. كان من الضرورى فى ذلك الوقت أن تبحث ثورة يوليو عن صيغة تضمن بها على الأقل علاقات خاصة جدا بين مصر والسودان..
كان لى صديق سودانى عزيز يعمل أستاذا فى جامعة الخرطوم وكنا نتحدث عن علاقات مصر والسودان وضحك كثيرا عندما قلت له أريد أن أتولى سلطة القرار يوما واحدا فقط أعيد فيه السودان إلى مصر وأعيد مصر للسودان وأترك الحكم بعد ذلك..
أسباب كثيرة عندى تجعلنى أطرح هذه الأفكار التى تبدو فى نظر البعض خواطر شاعر، ولكن من يراجع سجل العلاقات المصرية السودانية لابد أن يشعر بالأسى أمام متغيرات شديدة القسوة تركت آثارها السيئة على تاريخ هذه العلاقات..
لا أنكر أن السودان يمثل فى أعماقى حالة خاصة فأنا عاشق قديم للسودان الشعب والأرض والحياة وكنت دائما أرى مصالح مصر فى الجنوب وليست فى أى مكان آخر..
منذ خمس سنوات وربما أكثر ذهبت فى رحلة قصيرة للسودان وبين الأمسيات والمناقشات والأحاديث مع الإخوة سواء كانوا من المثقفين أو رجال السلطة كان هناك عتاب صامت، أن مصر الدولة والشعب والمؤسسات هم الذين تخلوا عن السودان.. وفى سجلات التاريخ والأيام تستطيع أن تضع يديك على أشياء كثيرة توارت وغابت فى سلسلة العلاقات بين الشعبين الشقيقين:
كانت الأسواق السودانية تعتمد تماما فى كل شىء تقريبا على السلع المصرية التى تملأ الأسواق ابتداء بالأدوية المصرية وانتهاء بالملابس والأزياء.. كان الدواء المصرى معروفا فى أسواق السودان كما يستخدمه المصريون تماما فى القرى والنجوع فى مصر.. وكانت المنسوجات المصرية تتصدر كل شىء ولا يوجد ما ينافسها فى الأذواق والألوان والأسعار..
والآن لا تجد سلعة واحدة مصرية فى أسواق السودان.. لقد بقى الإخوة فى السودان ينتظرون سنوات طويلة عودة الإنتاج المصرى الذى يعرفونه جيدا فى كل السلع والخدمات ولكن مصر غابت.. ثم غابت.. ثم غابت.. وتدفقت سلع أخرى من أسواق أخرى وملأت الشوارع والأرصفة، ابتداء بالإنتاج التركى وانتهاء بالمعجزة الصينية التى تصدر التكنولوجيا وعمال النظافة وكل أنواع الملابس..
امتلأت أسواق السودان بالسلع الأجنبية من كل لون وغابت صناعة مصر التى أنشأها طلعت حرب فى المحلة الكبرى وكفرالدوار والقاهرة وأسيوط غاب الوجود المصرى ممثلا فى صادرات مصر التى عرفها الشعب السودانى وحفظها عشرات السنين..
بعد أن غاب الإنتاج المصرى انسحب رجال الأعمال الذين كانوا يستوردون الجمال الحية وأنواع الماشية والحبوب وكثير من المنتجات السودانية التى كانت توفر عشرات السلع للمصريين بأسعار رخيصة.. كان النيل يحمل هذه السلع ويتجه بها حتى يصل إلى مشارف الإسكندرية وفى كل مدينة تقع على النهر العظيم كان التجار السودانيون يهبطون بما لديهم.. يبيعون الجمال والصمغ والحبوب والصناعات اليدوية والجلود والماشية ويعودون بالملابس والأدوية والسكر والأسمدة والأسمنت والحديد وكانت سفن البضائع النهرية تحمل كل هذا من أقصى نقطة فى شمال مصر إلى أبعد نقطة فى جنوب السودان..
غاب الفن المصرى والثقافة المصرية العريقة.. غاب الفنانون المصريون ولم يعد الأشقاء فى السودان يذكرون آخر فنان مصرى زار السودان أو آخر كاتب حضر إلى الخرطوم.. غاب طيف أم كلثوم وهى تشدو هناك وغابت صورة العقاد وطه حسين وشوقى وحافظ.. غاب الكتاب المصرى الذى تعلم منه الطيب صالح والفيتورى.. كل شىء فى السودان يحمل ملامح الثقافة المصرية.. فهناك فرع جامعة القاهرة فى الخرطوم بكل أساتذته ومعلميه.. وهناك عشرات المئات من المدرسين فى المدارس السودانية.. وهناك الأطباء والمهندسون والعمال الذين عاشوا بين أشقائهم فى السودان وحملوا أجمل الذكريات هناك وعندما عدنا أخيرا فى مباراة الجزائر كادت تحدث كارثة إعلامية بين البلدين لولا تدخل الرئيس مبارك شخصيا فى اللحظات الأخيرة لإنقاذ الموقف وتجاوز الأزمة..
غاب الدور السياسى المصرى عن السودان وهو يواجه أزماته ومشكلاته ومعاركه فى الجنوب طوال ربع قرن من الزمان تمزقت فيها أوصال الشمال والجنوب معا.. تحمل السودان كارثة الحرب الأهلية فى أكثر من مكان وأكثر من زمان وما بين حرب الجنوب وحرب دارفور عاش الشعب السودانى مجموعة من الأزمات المتلاحقة التى كانت سببا فى تأخر مشروعات التنمية فى جميع المناطق..
إن الحروب الأهلية التى ضاع فيها مئات الآلاف ما بين الشمال والجنوب وما بين الفاشر والخرطوم كانت من أهم الأسباب التى وضعت السودان فى قائمة الدول الأكثر فقرا رغم موارده التى لا حدود لها.. فى السودان أكبر مساحة من الأراضى الزراعية الخصبة وأكبر عدد من الثروة الحيوانية وأكبر موارد المياه نيلا وأمطارا.. وفى السودان الأرض تجمع كل المناطق الجغرافية الاستوائية والصحراوية والزراعية فهو أكبر بلاد أفريقيا فى المساحة وأكثرها تعددا فى ظروف المناخ..
كانت الحرب فى جنوب السودان واحده من أكبر كوارث الحرب الأهلية فى العالم كله.. ترك الإنجليز قبل أن يرحلوا بذور هذه الفتنة بين أبناء الشمال المسلمين العرب وأبناء الجنوب المسيحيين الزنوج، ورغم أن الوطن واحد والنيل واحد والمعاناة واحدة فإن الإنجليز زرعوا بذور الكراهية التى تحولت إلى معارك وحروب ودماء.. إن مساحة الجنوب تعادل ربع مساحة السودان وفيه عدد من القبائل منها الدنيكا والنوير والشلك والبارى والأنواك والأزاندى وهذه القبائل لها ثقافتها التى تختلف عن ثقافة أهل الشمال من العرب.. ومع إهمال التنمية فى الجنوب ومع المؤامرات التى تركها الاستعمار الإنجليزى انقسم الشعب السودانى على نفسه وتحولت المواجهة إلى حرب دامية.. تدخلت القوى الغربية فى الحرب وأصبح جنوب السودان قضية دولية تلعب فيها كل القوى حتى كان اتفاق السلام الذى انتهى إلى مشروع للاستقلال أو الانفصال أو الوحدة مع الشمال.. وهذا كله سيتقرر فى استفتاء شعبى فى العام القادم..
على الجانب الآخر كانت أزمة دارفور التى اشتعلت منذ أكثر من خمسة أعوام.. وحين هدأت المعارك فى الجنوب كانت تشتعل فى دارفور العربية المسلمة.. كل سكان دارفور من القبائل جاءت من أصول عربية وتدين بالإسلام.. وكانت هناك علاقات تاريخية بين مصر ودارفور، حيث طريق الأربعين للتجارة..
وكان طلاب العلم المسلمين فى دارفور يتوافدون على الأزهر الشريف يدرسون أسس الشريعة الإسلامية فى الفقه واللغة وقراءات القرآن الكريم.. ولكن مصر الثقافة والعقيدة غابت عن دارفور.. كما غابت مصر التنمية والاقتصاد عن الجنوب وأمام الحروب الأهلية ضاعت على السودان فرصا كثيرة للتنمية الاقتصادية، حيث تتوافر كل العناصر من الأرض والماء والموارد والبشر.. ويغيب التخطيط والاستقرار والأمن وتتراجع حركة البناء..
لا شك أن السياسة المصرية لعبت دورا خطيرا أمام حكومات متعاقبة تولت السلطة فى السودان ما بين حكم عسكرى شمولى متسلط أو حكم مدنى جامح وتعرضت السودان لمحاولات انقلاب كثيرة وكانت مصر تقدم الدعم حينا أو ترفض البعض فى أحيان أخرى.. وكانت فترة حكم الرئيس نميرى من أكثر فترات التقارب بين مصر والسودان رغم كل التحفظات الداخلية على حكم نميرى بصفة عامة..
تدخلت مصر فى الشأن السودانى لصالح أطراف ضد أطراف أخرى بل إنها لم تتردد فى استخدام القوة العسكرية كما حدث فى جزيرة «آبا»، وكان هذا تجاوزا مرفوضا أساء للعلاقات التاريخية بين البلدين الشقيقين..
كان من أهم الأخطاء التى وقعت فيها الإدارة المصرية أنها اعتبرت السودان جزءا من منظومة علاقاتها الخارجية مع دول حوض النيل وقد يكون لهذا الاعتبار ما يبرره من حيث البعد الجغرافى ومنابع النيل وقضايا توزيع المياه، ولكن موقع السودان وأهميته ودوره فى منظومة الأمن القومى المصرى يضعه فى سياق آخر يتجاوز كل حسابات دول حوض النيل.. صحيح أن للسودان أهمية خاصة فى حسابات مياه النيل، خاصة أن مصر والسودان هما دولتا المصب ولكن السودان العربى الذى تربطه علاقات تاريخية وإنسانية خاصة مع مصر له موقعه فى قائمة العلاقات المصرية الخارجية، بحيث يأتى فى مقدمة هذه القائمة وكان من الخطأ الجسيم أن أصبح السودان فى نظر السياسة الخارجية المصرية جزءا من دول حوض النيل رغم أنه أكبر من ذلك بكثير..
كان إهمال السودان جزءا من إهمال دول حوض النيل.. لقد اتجهت مصر شمالا وتصورت أن المستقبل يفتح لها أفاقا أوسع مع البحر المتوسط ورياح الغرب الشاردة.. وكان هذا اعتقادا قديما تصوره بعض الساسة عندنا وبعض الكتاب فى هذه النظرية الغريبة التى تقول إن مصر جزء من حضارة البحر المتوسط، بعيدا عن عمقها العربى الإسلامى.. وبعد كامب ديفيد تشجع هذا الاتجاه مطالبا باتفاقيات خاصة مع الكويز أو الشراكة الأوربية أو الثقافة الغربية، وكان ذلك من أهم وأخطر الأزمات التى عاشتها مصر خارج نطاقها العربى أمام حسابات خاطئة وافتراضات لا تستند إلى تاريخ أو ثقافة..
تركت مصر السودان يواجه مصيرا غامضا بين القوى الكبرى.. لقد تسللت الصين واستطاعت أن تقيم علاقات قوية مع السودان خاصة فى منطقة الجنوب، حيث الاكتشافات البترولية وحيث الأسواق الواسعة للإنتاج الصينى.. واتجهت فرنسا إلى دارفور من خلال تشاد ودول وسط أفريقيا وتاريخ فرنسا فى شمال أفريقيا العربى.. وأصبحت هناك أطماع كثيرة فى المنطقتين.. إن الجنوب تحاصره كينيا وأوغندا وإثيوبيا والكونغو وأفريقيا الوسطى وفيه مناطق كثيرة للزراعة والرعى بجانب احتمالات مؤكدة عن البترول وكانت أمريكا اللاعب الرئيسى فى شئون السودان طوال السنوات الماضية سواء كان ذلك فى أزمة الجنوب أو مأساة دارفور..
والآن بقى عام واحد ويجرى الاستفتاء على انفصال الجنوب أو بقاء السودان موحدا.. ولا أحد يعلم المصير الذى ينتظر الجنوب حتى الآن.. فى الأسبوع الماضى كانت هناك مبادرة طيبة من السيد عمرو موسى أمين عام جامعة الدول العربية عندما ذهب على رأس وفد كبير من رجال الأعمال العرب والمصريين إلى جنوب السودان وكانت زيارة ناجحة بكل المقاييس وربما كانت سببا فى تغيير حسابات كثيرة فى المستقبل القريب..
على جانب آخر، ذهب الرئيس البشير إلى دارفور واستقبله سكان دارفور استقبالا حافلا بعد توقيع اتفاق السلام فى الدوحة.. وقد بقيت أسابيع قليلة على الانتخابات الرئاسية فى السودان، فهل يبدأ السودان صفحة جديدة فى العام القادم وبعد الاستفتاء لتحديد مستقبل دارفور؟..
نحن أمام صورة جديدة للسودان مع مسلسل الأحداث القادمة ولا أحد يستطيع أن يتنبأ من الآن بهذا المستقبل..
هل ينفصل الجنوب عن الشمال.. أم تنفصل دارفور عن الاثنين معا؟.. وهل يحمل العام القادم فى ظل الانتخابات والاستفتاءات ملامح دولة جديدة فى السودان تنقسم ما بين الجنوب والشمال ودولة دارفور؟.. وهل من الممكن أن ينجح الرئيس السودانى القادم سواء كان الرئيس البشير أو غيره فى مواجهة محاولات التقسيم التى تهدد الكيان السودانى بقوة؟..
نحن أمام أكثر من صورة للسودان القادم سواء كان موحدا أم مقسما بين ثلاث دول جديدة فى دارفور والجنوب والشمال..
إن تقسيم السودان خسارة كبيرة لمصر أولا.. وللعرب ثانيا وقبل هذا هو خسارة فادحة للشعب السودانى الشقيق ولنا أن نتصور مستقبل مياه النيل فى ظل دول ثلاث على أرض السودان وكل دولة تطالب بحقها وحصتها فى مياه النيل..
ما أحوج السودان الآن لمصر الموقف والقوة والدعم وفى ظل هذه الفترة القصيرة المتبقية من الوقت قبل انتخابات الجنوب واستفتاء دارفور.. إن السودان يحتاج للدعم المصرى على كل المستويات الاقتصادية والسياسية.. وفى ظل ضغوط شديدة تمارسها أمريكا على السودان وفى ظل مؤامرات مكشوفة للوبى الصهيونى وإسرائيل، يحتاج السودان حكومة وشعبا لدعم مصرى واضح..
قد يرى البعض أن تقسيم السودان أصبح حقيقة لا مفر منها لأن الأمور جميعها تسير فى هذا الاتجاه وحتى لو كان ذلك صحيحا فينبغى أن نسعى إلى وقف هذه المؤامرة أو على الأقل الحد من آثارها الخطيرة على مستقبل السودان كله، حتى فى حالة التقسيم يمكن أن يحصل الشمال على شروط وظروف أفضل من خلال الدعم المصرى..
تستطيع مصر أن تعيد الكرة إلى ملاعبها مرة أخرى من خلال دبلوماسية نشيطه ودعم صريح للحكومة السودانية وأن تستثمر تاريخا طويلا من العلاقات مع الجنوب وتاريخ أطول مع أهالى دارفور الذين يحملون لمصر التاريخ والثقافة والدور تراثا كبيرا..
كان شيئا مؤلما أن تغيب مصر عن اتفاق الدوحة وألا يكون هذا الاتفاق فى القاهرة ولكن يبدو أن هناك حسابات وأوضاع كثيرة تتغير ونحن عنها غافلون..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.