احتفل العالم فى العاشر من ديسمبر الماضى بالذكرى الستين لصدور الإعلان العالمى لحقوق الإنسان، ذلك الإعلان الذى كان لمصر، ممثلة فى المفكر والسياسى الدكتور محمود عزمى، دور فى صياغته، فقد كان واحدا من أعضاء اللجنة التى صاغت هذا الإعلان، لكن علاقة مصر بمفاهيم حقوق الإنسان قديمة قدم الحضارة المصرية. واليوم نبحث فى سجلات التاريخ وننقب عن أقدم وثيقة لحقوق الإنسان عرفها البشر، وتقودنا الرحلة إلى مصر القديمة، حيث بزغ فجر الضمير الإنسانى، نتوقف فى عصر الدولة الوسطى الذى يمتد ما بين سنتى 2022 و1650 قبل الميلاد، وعلى وجه التحديد فى عصر الملك أمنمحات الأول وابنه سنوسرت الأول. وأمنمحات الأول هو مؤسس الأسرة الثانية عشرة وأول ملوكها، كان يعمل قبل توليه العرش وزيرا للملك منتوحتب الرابع آخر ملوك الأسرة الحادية عشرة، وقد تميز حكم منتوحتب الرابع بكثرة القلاقل والاضطرابات، لدرجة أن علماء المصريات لم يتمكنوا من التعرف على ملامحه تماما، وقد انتهى عصره بحرب أهلية نجح وزيره أمنمحات فى إخمادها وتولى العرش. لقد تمكن أمنمحات الأول فى فترة حكمه التى امتدت من سنة 1991 إلى سنة 1962 قبل الميلاد من إرساء دعائم نظام الدولة، وسطّر بوضوح معالم عهد جديد، أمضى قرابة ثلاثين عاما فى العمل الشاق من أجل إعادة تنظيم المملكة وتوحيدها، وإقرار سلطة التاج، ونقل عاصمة البلاد من طيبة إلى اللشت؛ لموقعها المتوسط بين مصر العليا ومصر السفلى، وقضى أمنمحات الأول معظم فترة حكمه متنقلا فى أنحاء مملكته؛ لإخضاع جيوب المقاومة فى كل موضع ومطاردة قبائل البدو الرحّل الذين استغلوا فرصة القلاقل الداخلية، فهاجموا مناطق الحدود. ولم تقتصر إنجازاته العسكرية على تصفية حركات التمرد فى الخارج، ومطاردة المعتدين على حدود مصر، بل سعى إلى تأمين المناطق الحدودية تأمينا دائما فشيد مجموعة من الحصون المنيعة عند الحدود الشرقية تعرف بحائط الأمير؛ لحماية البلاد من هجمات الآسيويين. وقد نجح الملك أمنمحات الأول فى تأسيس إدارة قوية، وزاد من أعداد الموظفين الإداريين فى الجهاز الحكومى، وأوصى بكتابة المؤلفات الإرشادية التى تساعد الموظفين فى حسن إدارة الأعمال، فظهر نوع جديد من الأدب الإدارى والسياسى شاع فى عصر الدولة الوسطى، أما على صعيد الديانة والعبادات فقد تدعمت عبادة الإله آمون الذى كان حديث عهد بالإلوهية، والذى كان أمنمحات ينتسب إليه، فمعنى اسمه باللغة المصرية «آمون فى المقدمة»، وفى سنة 1971 قبل الميلاد شعر أمنمحات بتقدم السن وأعراض الشيخوخة فأشرك ابنه سنوسرت معه فى الحكم، واعتكف هو فى القصر الملكى ولم يغادره، وطوال السنوات العشر الأخيرة من حكم أمنمحات الأول كانت المهام العسكرية فى سوريا والنوبة وليبيا من نصيب ابنه وشريكه فى الحكم. وبينما كان سنوسرت فى إحدى هذه الحملات العسكرية مات والده فى مؤامرة من مؤامرات القصر كادت تؤدى إلى فقدان الأسرة الجديدة للعرش، لكن المهارة السياسية للملك الجديد مكنته من السيطرة على الموقف وإعادة الاستقرار للبلاد. وقد أنتج فى عصر الدولة الوسطى العديد من نصوص الأدب السياسى والإدارى، بالإضافة إلى أدب النصائح، ومن بين هذه النصوص وثيقة تنسب إلى عهد أمنمحات الأول تتضمن التعليمات والنصائح الموجهة من الملك إلى كبير وزرائه، التى تحدد له الأسلوب الذى ينبغى أن يتبعه فى الحكم وفى التعامل مع أفراد الشعب، وقد سجلت الوثيقة اجتماع الملك بمجلس مستشاريه وتلاوته لتعليماته على وزيره الأول، التى يستهلها بقوله: «تبصر فى وظيفة الوزير الأعظم، وكن يقظا لمهامها كلها... انظر، إنها الركن الركين لكل البلاد، واعلم أن الوزارة ليست حلوة المذاق، بل إنها مرة، واعلم أن الوزارة لا تعنى احترام أشخاص الأمراء ومساعدى الملك وحدهم، وليس الغرض منها أن يتخذ الوزير بها لنفسه عبيدا من عامة الشعب، واعلم أنه عندما يأتى إليك شاك من مصر العليا أو مصر السفلى أو من أى بقعة فى البلاد، فعليك أن تطمئن إلى أن كل شىء يجرى وفق القانون، وأن كل شىء قد تم حسب العرف الجارى، فتعطى كل ذى حق حقه، واعلم أن الوزير يحتل مكانه بارزة، وأن الماء والهواء يخبران بكل ما يفعله، واعلم أن كل ما يفعله لا يبقى مجهولا أبدا...» ويعتبر بعض الباحثين أن هذه الوثيقة هى أقدم عهد لحقوق الإنسان عرفه البشر، أو عرفناه نحن حتى الآن... فالوثيقة تمثل عهدا رسميا يأخذه الملك على كبير وزرائه عند تعيينه فى منصبه، يلزمه بمقتضاه باحترام قواعد العدل والمساواة بين الناس جميعا، بغض النظر عن مستواهم الاجتماعى وموقعهم السياسي... ولننظر ماذا يقول نص الوثيقة أو العهد الملكى: «تذكر دائما أن تحكم بالعدل؛ لأن التحيز يعد طغيانا على الإله، وهذا هو التعليم الذى أعطيك إياه، فاعمل وفقا له، وعامل من تعرفه معاملة من لا تعرفه، والمقرب من الملك كالبعيد عنه، واعلم أن الأمير الذى يعمل بذلك سيستمر هنا فى هذا المكان، ولا تغضب على رجل لم تتحر الصواب فى أمره، بل اغضب على من يجب الغضب عليه، اجعل نفسك مهيبا ودع الناس يهابونك، واعلم أن الخوف من الأمير يأتى من إقامته العدل، واعلم أن الإنسان إذا جعل الناس يهابونه أكثر مما ينبغى دل ذلك على ناحية نقص فيه فى نظر القوم، واعلم أنك ستصل إلى تحقيق الغرض من منصبك إذا جعلت العدل رائدك فى عملك.... انظر، إن الناس ينتظرون العدل فى كل تصرفات الوزير، وهى سنة العدل المعروفة منذ أيام حكم الإله على الأرض، ولا تتوان قط فى إقامة العدل، وهو القانون الذى تعرفه، واعلم أنه جدير بالملك ألا يميل إلى المستكبر أكثر من المستضعف، وعليك بالنظر فى القانون الملقى عليك تنفيذه...» إن قيمة هذه الوثيقة ودلالتها تكمن فى عدة جوانب: أولا لابد أن نقرر أن النصوص المنسوبة إلى عصر أمنمحات الأول تثار حولها شكوك كثيرة، ففى ذلك العصر اختلقت نصوص نسبت إلى عصور أقدم، كما يعتقد كثير من علماء المصريات أن نصوصا وضعت فى عصر خلفاء أمنمحات نسبت إلى عصره، لكن بغض النظر عن صحة نسبة هذا النص بالتحديد إلى عصر أمنمحات الأول، فمن المؤكد أنه ينتسب إلى عصر الدولة الوسطى عموما، والنص يؤكد على ظهور مبدأ المساواة أمام القانون فى ذلك العهد، كما يقول الباحث جلال الجميعى فى كتابه عن حقوق الإنسان من العصر الفرعونى إلى الثورة الفرنسية، الذى جمع فيه عددا كبيرا من النصوص وقارن بينها، وهذا النص يعتبر نصا متقدما للغاية فى المفاهيم التى يتبناها، بالمقارنة إلى نصوص معاصرة له أو قريبة منه، كشريعة حمورابى فى العراق التى تميز بوضوح فى تطبيق القانون بين الناس على أساس مستواهم الاجتماعى، بل إن بعض ما فيه من قيم ومبادئ مازلنا فى حاجة إلى التأكيد عليها إلى اليوم.