هل يحق لأى شخص صديقا كان أو قريبا أن يعبث بمسودات شاعرٍ أو مبدع، خاصة إذا كان بقامة وشهرة «محمود درويش»؟، هذا ما تثيره الطبعة الثانية من ديوانه المنقح «لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي»، الذى تعتزم شركة «رياض الريس» إعادة نشره، بعد إعادة النظر فى نصوصه بناء على ما وصفته بخبرتها فى كتابات الشاعر وملاحظات الشعراء والنقاد. كان هذا القرار المثير للجدل، الذى يعد الأول من نوعه بحق أيٍ من أعمال الراحل الكبير «محمود درويش» هو آخر ما وصل إليه السجال المحتدم فى بيروت على مدار مارس الماضى، بعد صدور آخر قصائد الشاعر، التى وجدها مجموعة من أقاربه وأصدقائه فى بيته، إلى القراء فى ديوانٍ بعنوان «لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي» قام على جمعه وتبويبه الأديب اللبنانى «إلياس خوري». وجاء القرار بعدما أثاره أكثر من شاعرٍ وناقد من لبنان وسوريا وفلسطين حول وجود أخطاء عروضية ولغوية ومطبعية فى الديوان الأخير، مثل الشاعرين اللبنانيين «شوقى بزيع»، و«محمد على شمس الدين»، والسورية «ديمة الشكر»، هذا الاكتشاف الذى أشعل حربا ربما تتواصل معاركها فى ساحات المحاكم بين الناشر «رياض الريس» الذى اعتبر خروج الديوان بأخطائه تلك إهانة لسمعة الدار المهنية، إلى جانب الإساءة إلى تراث الشاعر، والكاتب «إلياس خوري»، محملا الأخير مسئولية هذه الأخطاء لرفضه منح الدار النسخة المخطوطة لديوان الشاعر، ما اضطرهم، بحسب الريس، للاعتماد على النسخة الإلكترونية التى أرسلها المحامى «جواد بولص»، بصفته القانونية وكيلا عن ورثة الشاعر محمود درويش، بعد أن سلّم الدار نسخة مطبوعة عند توقيع العقد، وكتب عليها بخط يده وتوقيعه عبارة «مهم جدا. يعتمد النص المرسل بالإيميل، لأنه معدّل بعد دراسة ونقاش». والسؤال الآن: هل كان من الأفضل أن يتم تجاهل الميراث الإبداعى للمبدع وحرمان القراء من آخر تجلياته، أم أن الأفضل أن نحتذى ب(ماكس برود )صديق «كافكا» الذى خالف وصيته بإحراق مؤلفاته بعد وفاته، وقام بطبع ونشر مؤلفات «كافكا» التى صنفته كرائدٍ للاتجاه الكابوسى أو السوداوى فى الكتابة. السؤال بجانبيه نطرحه فى هذا التحقيق على مجموعة من الأدباء والشعراء، لمعرفة الكيفية التى يرغبون التعامل بها مع ميراثهم الإبداعى: فى البداية يؤكد الأديب الكبير «إبراهيم أصلان» أن نشر الأعمال الإبداعية للكاتب أو الأديب بعد وفاته واجب أخلاقى، على أن يكون العمل مكتملا أوشبه مكتملٍ، ويصلح للنشر، ويضيف أنه عند اكتشاف كتاب، أو مخطوطةٍ لم تنشر، خصوصا لأحد الأسماء الكبيرة، فإن العالم كله يحتفى بها، لكونه إضافة ليس فقط لمسيرة المبدع، وإنما للميراث الأدبى ذاته. ويشدد «أصلان» على ضرورة عدم المساس بالعمل الذى تركه الكاتب، أومحاولة تغيير أو تبديل أو إضافة أى شىء به، موضحا أن ما يجوز التدخل به من وجهة نظره هو فقط المراجعة النحوية. ويروى «أصلان» أن الوعكة الصحية التى اعترته فى الفترة الأخيرة، جعلته ينتبه لهذا الأمر، إذ قام بتقسيم الأعمال التى يشتغل عليها إلى جزءين، يضم أحدهما ما تم إنجازه ومراجعته بالفعل، ويضم الآخر ما يتصل بنفس الموضوع، لكنه مازال قيد العمل والاختيار. ويضيف مبدع «مالك الحزين»:»إن أى مبدعٍ معرض لأن يرحل فى وقتٍ غير مناسبٍ للعمل الذى كان يعمل عليه، فإذا عثر خلفه على ماهو مكتمل أو شبه مكتملٍ، فنشره واجب، على ألا تمتد يدٌ أخرى، أيا كان صاحبها، لهذا العمل. ويتفق معه الشاعر الكبير «عبدالرحمن الأبنودى» الذى يرى ضرورة نشر المنتَج الإبداعى للكاتب طالما أنه مكتملٌ أو شبه مكتمل، حتى ولو صاحبته بعض الهنّات أو العيوب. ويضيف أن المبدع أو الشاعر لو كان على قيد الحياة، لعاد إلى قصائده مرة أخرى، وعالج اعوجاجها، أما وقد رحل فمن حق أحبابه وأصدقائه أن ينشروا تلك القصائد، فذلك بالتأكيد أفضل من حرمان القراء من تلك الأعمال الجميلة، وعلينا أن نعرف أن تلك هى الحالة الأولى للكتابة. ويوضح «الأبنودي» أن الشاعر يهتم أولا لحظة التدفق الشعرى باقتناص المعنى، وقد يشاكس الأوزان ويتعداها، كيلا يوقف هذا التدفق، ثم يعود إلى قصيدته بعد ذلك بعقل بارد، فيصحح اعوجاجاها، ويكمل النواقص. وعلى خلفية الديوان الأخير ل«درويش» يقول الشاعر: «كان لا بد أن نقرأ آخر أعمال درويش، ولم يكن جميلا أن يحرمنا أحدٌ من ذلك». ويلفت «الأبنودي» إلى أن خروج ديوان درويش على حالته الأولى، الذى منعه القدر من مراجعته ووضع لمساته الأخيرة عليه، يجعله محل دراسة، لنعرف كيف كان يكتب درويش، لأنه طوال حياته، وفى كل دواوينه، وحتى أثناء إلقائه لقصائده لم نجده أبدا يخطىء فى الوزن أو العروض. من جانبه يرى الشاعر« شعبان يوسف» أن الكتابة الأدبية تعد وثيقة إبداعية وتاريخية ونفسية للمبدع، تكشف عن طبيعة وآراء وأفكار الكاتب ذاته، وأنه كأديب يرفض أن يعبث أى شخصٍ بنصوصه بعد رحيله، موضحا أن أى إضافةٍ أو حذفٍ أو تغيير فى نصٍ رحل عنه صاحبه، هو ليس للكاتب، وإنما لمن أحدث هذا التغيير، وسيعتبر تزييفا للنص الإبداعى الحقيقى. ويروى «يوسف» أن تلك الوقائع رغم مهاجمتها كثيرا ماتكرر، مستشهدا بالهجوم الشديد الذى تعرض له الشاعر «حلمى سالم» إثر نشره القصائد الأخيرة للشاعر «على قنديل» بعد وفاته، وتصويب بعض الفقرات بها لضبطها إيقاعيا. ويضيف: إن قصصا عديدة فى هذا السياق كشفت عنها الصحافة المصرية والعالمية، كما حدث مع أدباء وفنانين وكتاب، مثل «إحسان عبدالقدوس»، و«سيد درويش»، و«سلامة موسى»، و«لطفى السيد»، تم التلاعب فى كتاباتهم، ومذكراتهم، وأعمالهم، لأسبابٍ قيل إنها أخلاقية، أو سياسية، أو اجتماعية، واقتصت أعمالهم من أجل اعتباراتٍ غير فنيةٍ ولا مهنية. وفى هذا السياق يشير الأديب والناشر «مكاوى سعيد» إلى أن عدم نشر الأعمال الأخيرة للمبدع لمجرد أنه رحل قبل ذلك، هو ظلمٌ له وإهمال لجزءٍ من تراثه، ينتمى إليه ويهم القاريء، موضحا أن لدى المبدع باستمرارٍ أفكارا قد لا يتاح نشرها فى حياته، لكنها تصلح للنشر. ويؤكد أن الأمانة تقتضى فى هذه الحالة أن يرفق العمل الإبداعى بمقدمة أو مذكرة تفصيلية للحالة التى وجد عليها، وظروف نشره، وكونه كتابة أولى لم يختتم صاحبها رحلتها للقارىء. ويعترف الكاتب أن نشر عمل أخير لمبدع، خاصة إذا كان مشهورا هو سبقٌ لأى ناشر، لكن الأمانة تقتضى توضيح ملابسته، مع رفض أى تدخل فى العمل، لأن ذلك يعد خيانة قد تدين العمل أو المبدع. وعن نفسه قال «مكاوى» إنه يتعامل مع هذه المسألة «بالبركة»،موضحا أن مسئوليته عن كتاباته لن تتجاوز فترة حياته، أما بعد ذلك فيرى أنه «لا يضير الشاة سلخها بعد ذبحها». ويؤيد الشاعر «عبدالمنعم رمضان» ما قاله «سعيد»، يقول «رمضان»: «لا أفكر فى الأمر بعد أن أموت، فأنا أخاف من الموت إلى درجة أننى لا أستطيع التفكير فى نفسى بعده». ويضيف: «هل نستطيع نحن الشعراء أن نتواجد أثناء حياتنا، لنفكر فى حضور مابعد الموت»؟ وعن قصائد «درويش» الجدلية قال «رمضان»: إن الحل الأمثل لأزمة هذا الديوان أن تنشر مخطوطات القصائد، بالتقابل مع النسخة الإلكترونية من كل قصيدة، بمعنى أن تُنشر فى الصفحتين المتقابلتين نسختان من القصيدة، إحداهما هى المخطوطة الأصلية بخط الشاعر، والأخرى هى النسخة الإلكترونية لنفس القصيدة. وأشار أنه بعث برسالة قصيرة من هاتفه المحمول إلى الشاعرين اللبنانيين «شوقى بزيع»، و«جودت فخر الدين» يطالبهما بذلك قائلا: «ديوان محمود درويش محل النزاع لن ينصفه وينصفنا إلا نشر صورة مخطوط محمود ذاته». وخاطب كلا من الشاعرين قائلا: « أنت تعرف أن الشاعر لا يخطىء فى الوزن فى مسودة، وأى شكل آخر للنشر هو احتيال على حقيقة وإخفاء لها، خاصة أن ما نشرته جريدة «الحياة» من قصائد عن نسخة السيدة «ديمة الشكر» تحتوى أخطاء أيضا». واختتم رسالته قائلا: «نريد مصحف محمودٍ لا مصحف عثمان»، على غرار المطلب الشيعى «نريد مصحف علىٍ لا مصحف عثمان». واستنكر «رمضان» فكرة تشكيل اللجان أو المنظمات التى تتعامل مع تراث الكتاب بعد وفاتهم، مستشهدا فى هذا السياق باللجنة التى تشكلت إثر وفاة الشاعر «إبراهيم ناجى» وضمت إلى جانب شقيق ناجى، الشاعرين صالح جودت وأحمد هيكل، ثم كانت المفاجأة أن أغلب القصائد التى جمعها هؤلاء كانت للشاعر «كمال نشأت»، الأمر الذى هوجم كثيرا من قبل شعراء ونقاد كثيرين من بينهم «حجازى» الذى أصدر للشاعر مختارات وقعت فى نفس الخطأ وتضمنت أيضا قصائد «لكمال نشأت».