ما يحدث في القدس شديد الخطورة ويستحق بالفعل شروع الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة في انتفاضة ثالثة تحمي ما تبقى من الأرض والمقدسات . فإجراءات التهويد المستمرة في القدس والتعديات المتتالية على حرم المسجد الأقصى وتصاعد النشاط الاستيطاني في القدس والضفة تثبت مجددا استحالة التسوية السلمية مع حكومة اليمين الإسرائيلية . وبغض النظر عن موجة الانتقادات الدولية والإقليمية لإسرائيل ، وبعيدا عن علامات الامتعاض البادية اليوم على وجوه المسئولين الغربيين خاصة حين التعرض لمسألة النشاط الاستيطاني في القدس والضفة ، ينبغي تقرير أن السياسات والممارسات الحالية لحكومة نتنياهو الائتلافية تعبر بدقة عن البرنامج الانتخابي الذي أوصل أحزاب اليمين كالليكود وإسرائيل بيتنا و شاس إلى موقع الحكم ، وتتطابق مع مجمل ما قامت به الحكومة منذ تشكيلها في بدايات عام 2009. دعونا نتذكر أن نتنياهو رفض إعلان التزامه بحل الدولتين وطرح كبديل مفهوم " السلام الاقتصادي مع الأراضي الفلسطينية " وهو ما ينفي عملا حق الشعب الفلسطيني المشروع في تقرير المصير وتأسيس دولته المستقلة . بل أن آخرين في الحكومة ، خاصة وزراء حزب إسرائيل بيتنا ، ربطوا بين رفض حل الدولتين والمطالبة بالتخلص من الفلسطينيين بترحيلهم إلى المحيط العربي والبحث في تأسيس وطن بديل لهم في الأردن المجاور . دعونا نتذكر أيضا أن نتنياهو رفض منذ تشكيل الحكومة الالتزام بوقف النشاط الاستيطاني ، وأجبر تعنته الولاياتالمتحدة واللجنة الرباعية الدولية والسلطة الفلسطينية والدول العربية الداعمة للنهج التفاوضي على خفض سقف مطالبهم من إيقاف كامل للاستيطان في القدس والضفة كشرط لاستئناف مفاوضات السلام ، إلى تجميد مؤقت يسبق المفاوضات مباشرة ، ثم إلى إسقاط دولي وعربي فاضح لشرط وقف الاستيطان أقرته الرباعية الدولية والجامعة العربية بالموافقة على صيغة المفاوضات غير المباشرة برعاية أمريكية وقبلته السلطة الفلسطينية على استحياء . إلا أن كل هذا لم يكن بكافي لانتزاع شيء من العطف واللين من اليمين الإسرائيلي ، فأعلنت حكومة نتنياهو عشية البدء في المفاوضات غير المباشرة مع السلطة وأثناء زيارة نائب الرئيس الأمريكي بايدن للمنطقة لدفع "عملية السلام " البدء في بناء 1600 وحدة سكنية جديدة في حي استيطاني ( رامات شلومو ) بالقدسالشرقية وشددت من إجراءاتها الاستفزازية في حرم المسجد الأقصى لتجبر بذلك السلطة الفلسطينية والدول العربية على التراجع عن قبول المفاوضات غير المباشرة. لا مفاجأة إذا أو جديد في سياسات وممارسات حكومة نتنياهو في الآونة الأخيرة ، بل تطابق تام مع خطها العام والبرنامج الانتخابي لأحزابها، باستثناء حزب العمل الضعيف . لا جديد تحت الشمس كذلك إن لجهة التخاذل الدولي عن الضغط الفعال على إسرائيل ، أو في ما خص العجز الفلسطيني والعربي عن اتخاذ موقف جماعي يوظف المتاح من الأوراق العربية لردع حكومة نتنياهو. ودعونا هنا نسمي الأمور بمسمياتها : فالعلاقات الأمريكية الإسرائيلية ، وعلى الرغم من الخلاف الدبلوماسي العلني بين الطرفين وعدم رضاء إدارة أوباما عن استمرار النشاط الاستيطاني في الضفة وغزة ، وانتقاداتها الواضحة لتعنت نتنياهو خاصة بعد نسفه لمساعي البدء في المفاوضات غير المباشرة ، لا تمر بأزمة إستراتيجية قد تباعد بين الدولتين أو تدفع الإدارة إلى استخدام أوراقها العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية الكثيرة للضغط على الحكومة الإسرائيلية لتغيير بعض سياساتها وممارساتها . قد تكون إدارة أوباما مهتمة بالتسوية السلمية للصراع العربي الإسرائيلي على أساس حل الدولتين وقد تتعاطف مع الفلسطينيين إزاء غطرسة الاستيطان الإسرائيلي ، إلا أن أولويتها الإستراتيجية الأولى حين تنظر اليوم للشرق الأوسط هي الملف النووي الإيراني وبشأنه ثمة توافق أساسي بين واشنطن وتل أبيب حول حتمية منع القنبلة النووية الإيرانية . نعم قد تفضل الولاياتالمتحدة السيطرة على النووي الإيراني تفاوضيا في حين لا تمانع إسرائيل في القيام بعمل عسكري للقضاء عليه . مع ذلك يقارب التوافق على الهدف بين الدولتين، ويدفعهما – كما تواتر في الإعلام الغربي خلال الأيام الأخيرة - استمرار رفض إيران للمطروح عليها في المفاوضات مع مجموعة 5+1 للبحث المشترك في إمكانية تشديد العقوبات ضد طهران وإعادة دراسة الخيار العسكري . كذلك يدرك المتابعون للشأن الداخلي الأمريكي أن إدارة أوباما ، وهي الغارقة في ملفات الرعاية الصحية وتنظيم القطاع المالي وإنعاش الاقتصاد والتعامل مع أزمة البطالة ، تعوزها الطاقة السياسية ، بل ولا ترغب في التشدد باتجاه إسرائيل ، كي لا تفتح جبهة جديدة في صراعها مع اليمين لن تعود عليها وعلى الحزب الديمقراطي سوى بخسائر انتخابية ( انتخابات التجديد النصفي للكونجرس في 2011 ) ... وما يقال عن الولاياتالمتحدة ورفضها الضغط على إسرائيل، ينسحب على الدول الأوروبية وروسيا والصين ، وجميعها لا تملك من الأوراق للضغط على إسرائيل ما يضاهي الأوراق الأمريكية. أما فلسطينيا وعربيا ، وعلى الرغم من كثرة الحديث اليوم عن حتمية المصالحة الفلسطينية بين فتح وحماس لإعادة لحمة الضفة وغزة وعن ضرورة المصالحة العربية ، كي يتسنى تطوير موقف رادع لإسرائيل إن بإعلان الدولة الفلسطينية من جانب واحد والعمل على حشد التأييد الدولي لها أو بتجميد مبادرة السلام العربية ورفض التفاوض مع إسرائيل ، فإن وضعية الانقسام الفلسطيني وحال الوهن الحكومي العربي مرشحين للاستمرار . خطأ الجامعة العربية الفادح حين أقرت المفاوضات غير المباشرة بين السلطة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية وتخلت عمليا عن شرط وقف الاستيطان لم يثبت فقط نجاعة الضغوط الأمريكية حين تمارس على الدول العربية ، بل أظهر أن العرب - بمعتدليهم ومقاوميهم وبغض النظر عن اختلاف ألوان خطابات حكوماتهم الرسمية - لم يعد في قاموس فعلهم الجماعي سوى مقابلة التعنت الإسرائيلي ، إما بالمزيد من التنازلات التي لا يتبعها مقابل مرضي أو بالصمت والتجاهل . وأغلب الظن أن مقررات القمة العربية القادمة في ليبيا لن تحيد عن هذين الخطين التي اعتادت عليهما حكومات إسرائيل وكذلك الجماعة الدولية. ما يحدث في القدس ، وعموم فلسطين والمشهد الإقليمي والدولي المصاحب له ، يتشابه إلى حد بعيد مع لحظتي بدء الانتفاضة الأولى والثانية ، ولا مخرج للفلسطينيين اليوم إلا بانتفاضة ثالثة تواجه غطرسة اليمين الإسرائيلي دفاعا عن الأرض والمقدسات وتتجاوز الانقسام الفلسطيني ، وتجبر المجتمع المدني في العالم العربي والجماعة الدولية على التحرك تضامنا مع حق الفلسطينيين المشروع في تقرير المصير.