نشرت الصياغة الأولى لهذا المقال بصحيفة الحياة اللندنية، ودفعني استمرار التنازع السياسي والإعلامي بمصر حول توصيف حادثة نجع حمادي البشعة ووضعية العلاقة بين المسلمين والأقباط والسبل المقترحة للخروج من تأزمها وترديها الراهنين وكذلك مناشدة بعض الأصدقاء والقراء إلى إعادة طرح أفكاره الأساسية عبر نافذة الشروق. فعلى النقيض من المحاولات الحكومية غير المسئولة لاعتماد توصيف حادثة نجع حمادي كعمل إجرامي ومن النزوع الخطير لبعض المفكرين والكتاب القريبين من التيارات الإسلامية إلى اختزالها في مجرد حادثة فردية جاءت كرد فعل على حوادث سابقة تورط بها مسلمون وأقباط، ينبغي التشديد بداية على أن الحادثة ارتكبت لدوافع طائفية وشكلت – وإن لم نستسغ استخدام هذه العبارة في السياق المصري - قتلا على الهوية نبه مجددا إلى خطورة حالة الاحتقان المتنامية في الآونة الأخيرة بين المسلمين والأقباط من مواطني مصر من جهة، ومن جهة أخرى إلى المسئولية الكبرى الملقاة على عاتق الدولة ومؤسساتها وكذلك الأغلبية المسلمة للتحرك الفعال لاحتوائها قبل فوات الأوان. فقد شهدت الأعوام القليلة الماضية ارتفاعا ملحوظا في معدل الحوادث والمواجهات الطائفية، جاء في العام الماضي وفقا لتقارير مراكز حقوق الإنسان المصرية بواقع حادثين شهريا على الأقل. استمر أيضا فعل الخليط الرديء من المعوقات القانونية والبيروقراطية المفروضة على بناء وصيانة الكنائس والمميز بوضوح ضد الأقباط من مواطني مصر فيما خص حرية ممارسة الشعائر الدينية. كذلك تضخم الحضور الإعلامي، خاصة في بث بعض القنوات الفضائية الخاصة، لخطابات الإقصاء المتبادلة بين المسلمين والأقباط ذات الصبغة الدينية وتصاعدت حدتها على نحو بات يهدد قيم المواطنة المدنية والعيش المشترك، وتناوب على إنتاجها متطرفون وطائفيون لدي الجانبين أبدا لم تعدم الساحة العامة في مصر وجودهم، ووظفوا لترويجها شائعات مخزية عن فضائح اغتصاب وعلاقات جنسية غير شرعية وجرائم اختطاف وإكراه على تغيير العقيدة أطرافها هم باستمرار مصريون مسلمون في مواجهة مصريين مسيحيين أو العكس. والمؤكد أن الدولة ومؤسساتها وأجهزتها تتحمل من المسئولية عن الاحتقان الطائفي الشيء الكثير. فعلى الرغم من بعض الإصلاحات الدستورية والقانونية التي أنجزتها الحكومة في الأعوام الماضية لجهة تعميق الحرية الدينية والتزام مبدأ المساواة الكاملة بين المواطنين فيما خص حقوقهم العامة والشخصية بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية، إلا أن بعض القوانين التمييزية ضد المصريين الأقباط وفي مقدمتها تلك المتعلقة ببناء وصيانة الكنائس وحق تغيير العقيدة ما زالت على حالها ولم تطلها بعد إرادة الدولة الإصلاحية. ويتواكب ذلك مع شيوع ظاهرتين إضافيتين مقيتتين: تتمثل أولاهما في استمرار التورط الدوري، بل وشبه اليومي، لبعض الأجهزة التنفيذية والإدارية الرسمية - خاصة على مستويات الحكم المحلي - في ممارسات تمييزية ضد المواطنين الأقباط. بينما تتعلق الظاهرة الثانية بتكاسل البعض الآخر من هذه الأجهزة عن القيام بمهام التعقب القانوني لمرتكبي حوادث العنف الطائفي من المسلمين والأقباط واستبدال فرض التعقب القانوني هنا باعتماد شديد الخطورة والقصور على الحلول العرفية والجزئية. أخيرا، يغيب أيضا الدفع الحكومي الحقيقي، أي المستند إلى تبني رؤى سياسية وبرامجية متكاملة، لتصحيح نسب التمثيل شديدة التدني للمواطنين الأقباط في المؤسسات التشريعية والتنفيذية على المستوى الوطني والمحلي برفعها إلى الحدود التي تتواءم مع أهمية وجود الأقباط المجتمعي ونسبتهم إلى بقية السكان. وعوضا عن التحرك الجاد لمواجهة هذه الإشكاليات بإلغاء ما تبقى من قوانين تضر بحقوق المصريين الأقباط وإيقاف الممارسات التمييزية ضدهم وعدم التساهل مع الحوادث الطائفية، اكتفت الدولة طويلا بإستراتيجيات سطحية اعتمدت إما إنتاج خطاب حكومي عن المواطنة المدنية أو تعميم الحديث الاحتفالي عن تماسك النسيج الوطني والوحدة الوطنية "لعنصري الأمة" أو التجديد المستمر لمشاهد الود الرسمية بين رجال الدين المسلمين والمسيحيين. ودأبت مؤسسات الدولة على استدعاء هذه الإستراتيجيات كلما وقعت حادثة مدوية من حوادث العنف الطائفي، ولم تتوقف عند التآكل البين لشرعيتها الشعبية أو تبالي بالتراجع الحاد في مصداقيتها لدى غالبية المواطنين. وعلى الرغم من أن بعض رموز نخبة الحكم، وفي مقدمتهم الرئيس مبارك، اعترفت بجرأة بادية في أعقاب حادثة نجع حمادي بوجود أخطار حقيقية تتهدد الوحدة الوطنية والعيش المشترك بين المسلمين والأقباط، إلا أن الإرهاصات الأولى لتحرك جاد للدولة مازالت غائبة. على أن الدولة، وبالرغم من جوهرية نواقص بعض قوانينها وممارسات مؤسساتها، ليست بصاحبة المسئولية الوحيدة عن تنامي الاحتقان الطائفي في مصر. فالأمر الذي لا شك به هو أن تخاذل المجتمع عن كبح جماح الاحتقان هذا ومحدودية فاعلية المساعي المجتمعية للتعامل الاحتوائي مع مسبباته لهما من الأثر السلبي ما لا يقل عن تداعيات إخفاقات الدولة. فالكثير من المنظمات المدنية والدينية، وباستثناءات قليلة تقتصر في المجمل على مراكز وجمعيات حقوق الإنسان، يتبع ذات النهج الحكومي فيتغاضى عن التعامل الجاد مع حوادث العنف الطائفي ويكتفي بالتنديد اللفظي بها مع إنتاج ما تيسر من احتفاليات الوحدة الوطنية. أما الإعلام الحزبي والمستقل فقد أسقط من قائمة مهامه مسئولية صناعة رأي عام مدني تنتظم بداخله أغلبية المواطنين المسلمين والأقباط يطالب صراحة بإنهاء التمييز ضد الأقباط والتزام مبدأ المساواة الكاملة. ثم تأتي ظاهرة مكملة على ذات الدرجة من الخطورة تتمثل في شيوع نزوع شعبي، له العديد من الإرهاصات إن على مستوى لغة وجوهر التخاطب بين المصريين أو فيما خص تنظيم حياتهم اليومية بشقيها العام والخاص، يغلب الانتماء الديني على رابطة المواطنة وينظر من خلاله إلى الآخر المسلم/المسيحي على نحو إقصائي يرتب السعي إلى قذفه خارج دوائر التواصل المستقرة وسياقات الحياة اليومية التي تستحيل بالتبعية إلى دوائر وسياقات "نقية" دينيا. وواقع الأمر أن شيوع النزوع نحو الإقصاء/النقاء الديني كان قد بدأ في التبلور مصريا منذ سبعينيات القرن الماضي، وتسهم اليوم في تعميمه في الفضاء العام منظمات دينية ووسائط تعليمية وإعلامية خاصة تنشط على خلفية إخفاقات الدولة وضعف القوى المدافعة عن المواطنة المدنية والمحبذة لتحييد الانتماء الديني حين إدارة ترابطات المواطنين. وتتمثل الخطورة المجتمعية للإقصاء/النقاء الديني من جهة في تفريغه للمواطنة المدنية من مضامينها وإضعافه المباشر لقيم العيش المشترك والتسامح الديني، ومن جهة أخرى في أن الحدود الفاصلة بين شيوعه وبين تبرير وممارسة العنف ضد الآخر الديني سرعان ما تتلاشى دافعة بالمجتمع ككل إلى أتون الاحتقان والعنف الطائفي. وعلى الرغم من أن النزوع نحو الإقصاء/النقاء الديني لم يعد اليوم قاصرا على قطاعات معتبرة من المسلمين بين المواطنين المصريين وبات تصاعده في صفوف بعض المواطنين الأقباط واقع مجتمعي لا يقبل الشك، تظل الأغلبية المسلمة هي المتسببة في شيوعه والقادرة على احتوائه حال تغير قناعات وتفضيلات قطاعاتها الواقعة تحت تأثيره. فالثابت تاريخيا أن الأقباط، شأنهم في ذلك شأن غيرهم من الأقليات الدينية والعرقية المندمجة في مجتمعاتها، دوما ما فضلوا الانفتاح على الأغلبية المسلمة ضمانا للأمن والاستقرار ولم يكن تراجعهم إلى داخل الجماعة الدينية في لحظات مختلفة إلا ردة فعل لممارسة الأغلبية لإقصائهم ونتاج للمخاوف الوجودية المترتبة عليها. الأمر إذا أن المواطنين المسلمين مطالبون بتفعيل وتجديد دماء ما تبقى في مصر من منظمات مدنية ودينية مستنيرة ووسائط تعليمية وإعلامية رشيدة لاستعادة الالتزام العام بمضامين المواطنة المدنية، ولتغيير بيئة مجتمعية صار الإقصاء والاحتقان الطائفي أحدى حقائقها البنيوية وأضحت من ثم في أعين المواطنين الأقباط إما مخيفة وطاردة إلى المهاجر باتجاه بلاد الأغلبيات المسيحية أو مستدعية للانكفاء على الذات، وفي الحالتين مرتبة للاستقالة من العيش المشترك. لن يتأتى إخراج المجتمع المصري من تخاذله إزاء تنامي الاحتقان الطائفي سوى بالحد من شيوع النزوع نحو الإقصاء/النقاء الديني وباضطلاع الأغلبية المسلمة بمسئوليتها في هذا الصدد. فإلى هذين الأمرين، فضلا عن تحرك الدولة لمعالجة نواقصها وإخفاقاتها على مستوى القوانين والممارسات، يعود مناط تغيير البيئة المجتمعية ليكتشف المسلمون والأقباط مجددا مضامين المواطنة المدنية التي صاغت شعار الوطنية المصرية الخالد "الدين لله والوطن للجميع" وليستعيدوا قدرتهم على العيش المشترك وقابليتهم للتسامح الديني.