عندما قدمت الحملة الفرنسية إلى مصر دبت روح مقاومة الاحتلال فى نفوس الأهالى وازدادت تلك المقاومة بعد ما ارتكبه جنود الاحتلال من قتل وتشريد، وقد ظهر العديد من الزعماء الشعبيين، الذين بثوا فى الأهالى روح النضال وقادوهم إلى القتال، بل إن أخبار مقاومة المصريين للحملة وصلت إلى البلاد المجاورة فى وقت لم تكن فيه حدود فاصلة أو أسلاك شائكة تفصل بين الدول، مما أجج التعاطف مع مصر وألهب الروح القومية ودفع بعض الأشخاص للقدوم إلى مصر والانخراط فى صفوف المقاومة. ولعل أشهرهم سليمان الحلبى الذى طعن الجنرال كليبر بالبستان الكبير بقصر الألفى يوم السبت 14 يونيو سنة 1800، وقررت المحكمة العسكرية التى أمر الجنرال مينو بتشكيلها بإحراق اليد اليمنى لسليمان الحلبى وإعدامه على الخازوق وترك جثته تأكلها الطير، وقد بلغت شهرة هذه الواقعة الآفاق. وقد سبق الحلبى بعام شخص آخر جاء من درنة بليبيا، وقد ورد اسمه عند الرافعى وفى بعض المصادر الفرنسية المهدى، وعند الجنرال رينييه أحد قادة الحملة مولاى محمد، وذكره الجبرتى بالرجل المغربى. ولعل المهدى لم ينل من الشهرة ما ناله سليمان الحلبى على الرغم أنه خاض معارك طاحنة، وأبدى مقاومة باسلة ضد الفرنسيين، فهل يرجع ذلك إلى أن الأحداث والوقائع المرتبطة بالقادة والحكام والزعماء هى الأشهر معرفة والأوثق تأريخا والأوسع انتشارا؟! أم يرجع للمصير المجهول والغامض لنهاية المهدى المختلف عليها؟! أم أن لبشاعة العقوبة التى طبقت على الحلبى وفظاعتها دورها فى شهرته؟! ولعلنا لا نهون بالذى فعله الحلبى، لكننا بحاجة إلى معرفة أكثر عن المهدى ذلك الرجل المغربى الذى ظهر فجأة فى البحيرة أواخر شهر أبريل سنة 1799، وتجمع حوله الكثير من القبائل من أولاد على والهنادى وغيرهم، ونجح فى بث روح المقاومة بين الأهالى فى وقت وجيز، والتف حوله عدد كبير منهم حتى إنه قاد مجموعة من الأهالى والقبائل، ووصل بجموعه إلى دمنهور التى كان بها حامية من الجنود الفرنسيين بقيادة الضابط مارتان، فأمر المهدى رجاله بالهجوم على الحامية، فقتلوا رجالها جميعا. وزاد أتباع المهدى واعتقد الناس فى قوته وخوارقه كما ذكر الرافعى، وواصل المقاومة فصار برجاله قاصدا مديرية الغربية، ورأى الكولونل لفيفر قائد الكتيبة المسئولة عن جباية الأموال، والذى وصل إلى دمنهور بعد مقتل جنود الحامية أن ينتظر المدد القادم من الجنرال مارمون قومندان الإسكندرية ويتحصن بالحامية الموجودة بالرحمانية، فوصل الضابط ريدون على رأس جنود المدفعية، وفى الطريق التقى رجال المهدى بتلك القوات ودارت بينهم معركة حامية الوطيس دامت خمس ساعات حتى انسحب ريدون إلى الإسكندرية، فأرسل مارمون مددا آخر على يد الكولونيل جوليان، وفى سنهور بالقرب من دمنهور دارت معركة طاحنة يوم 3 مايو 1799، وكان عدد رجال المهدى خمسة عشر ألف مقاتل من المشاة وأربعة آلاف من الفرسان، واستمر القتال سبع ساعات، وفى التاريخ العلمى والحربى للحملة الفرنسية قال ريبو: هذه الواقعة من أشد الوقائع التى واجهها الفرنسيون فى القطر المصرى، أظهر فيها أتباع المهدى من الفلاحين والعرب شجاعة كبيرة واستخفافا بالموت لا نظير له، وبذل الكولونيل لفيفر أقصى ما أنتجه العلم والفن فى القتال، فجعل جيشه على شكل مربع على الطريقة التى ابتكرها نابليون، وهجم على الجموع المقاتلة عشرين مرة، فكان يحصد صفوفهم حصدا بالنيران والمدافع، وكان أتباع المهدى قد غنموا فى دمنهور مدفعا فرنسيا فاستخدموه فى المعركة، وركبوه على مركبة تجرها الثيران وأخذوا يطلقون منه النار على الفرنسيين، واستمر القتال حتى جن الليل، وكان الجنود الفرنسيين قد خارت قواهم، ففكر لفيفر فى الانسحاب من الميدان والاتجاه إلى الرحمانية، ولكن جموع المهدى كانت تسد الطريق أمامه، حتى ضم صفوفه واخترق الجموع، وقال ريبو: إن الفرنسيين خسروا فى هذه المعركة ستين قتيلا، بينما يقدر خسائر المصريين بألفى قتيل منهم إبراهيم الشوربجى وعبدالله باشى من مشايخ دمنهور ومراد عبد الله شيخ قبيلة الهنادى، وبالرغم من هذه الخسارة فإن المعركة انتهت بفوز المهدى وارتداد الفرنسيين إلى الرحمانية. وانضم للمهدى أتباع آخرين بعد معركة سنهور وعسكر برجاله فى دمنهور، وجاء الجنرال لانوس من ميت غمر لإخماد ثورة المهدى بالبحيرة، وفى طريقه ضم إليه جنود الجنرال فوجبير بالغربية، ولما وصل إلى الرحمانية سار بقواته جميعا إلى دمنهور، فهزم رجال المهدى وأمر جنوده بتدميرها وإحراق البيوت وقتل النساء والأطفال والشيوخ حتى أصبحت دمنهور ركاما من الأحجار السوداء اختلطت بها أشلاء الجثث ودماء القتلى، على حد قول ريبو. وفى رسالته إلى الجنرال دوجا ذكر الجنرال لانوس أن دمنهور وأهلها كانت هدفا لانتقام الجنود، ولم يعد لها وجود، وقد قتل من أهلها نحو 1200 أو 1500 ماتوا قتلا أو حرقا، وقد أوضح الرافعى أن لانوس تعقب فلول المهدى ولحق بهم على حدود البحيرة، واختلفت الروايات فى خاتمة المهدى حيث ذكر نابليون فى مذكراته أنه قتل فى دمنهور أما الجنرال رينييه فقد ذكر أنه ظهر فى ثورة القاهرة الثانية وكان يحرض الناس على القتال، وهو قول الجبرتى أيضا.