فيلم مدته ساعتان يقع الجانب الأكبر من أحداثه داخل أحد دور العبادة ويلعب بطولته مجموعة من رجال الدين ممن لا تضعف نفوسهم أمام وسوسة الشيطان. أصغرهم يبلغ من العمر 45 عاما ويصل عمر أحدهم إلى 90 عام. من كان يتخيل أن يخرج من هذه المعطيات فيلم أقل ما يقال عنه إنه متعة تهذب النفس؟ هذا ما استطاع أن يقوم به المخرج الفرنسى «زافييه بوفواه» من خلال آخر فيلم فرنسى يعرض فى المسابقة الرسمية ل«كان» وهو فيلم رجال وآلهة «Des Hommes et des dieux» والذى يجسد به قصة حقيقية وقعت أحداثها بالجزائر فى تسعينيات القرن الماضى. لثمانى رهبان فرنسيين كانوا يقيمون ويتعبدون بدير أطل، ويساعدون أهل القرية الفقيرة التى يقع بها الدير من مسلمين أو مسيحيين، سواء بتقديم خدمات طبية مجانية أو تصنيع عسل ومنتجات غذائية وبيعها بأسعار زهيدة. ثلاث سنوات قضاها هؤلاء الفرنسيون فى انسجام وتوحّد مع أهالى القرية البسطاء الذين كانوا يعتبرون هؤلاء الأجانب إخوة لهم دون النظر إلى جنسيتهم أو دينهم. لوحة رائعة قدمها المخرج ونقل تفاصيلها الممتعة بكاميرته فشاهدنا الطبيب الراهب كيف يتعامل بمنتهى العطف مع مرضاه ولا يكتفى بعلاجهم . ولكن أيضا يهدى امرأة فقيرة حذاء جديدا بدل الحذاء المتهالك الذى ترتديه. ونرى حضور الرهبان الفرنسيين لحفل ختان أحد أطفال القرية. صراع الدين والإرهاب تقديمة أعقبها صراع كسر به بوفواه الإيقاع الرتيب للحياة داخل الدير. صراع متمثل فى الجماعات الإسلامية الجزائرية فى خضم حربها مع الحكومة على تولى السلطة. وهى جماعات كانت ترفض أى وجود أجنبى على الأراضى الجزائرية. الصدام بين الجماعة والرهبان يبدأ باقتحام الجماعة الدير ليلة الاحتفال بالكريسماس ويطلبون من الرهبان إرسال الراهب الطبيب معهم لعلاج أحد أفراد الجماعة المصاب فى أحد الأماكن القريبة. وهو ما يرفضه «كريستيان» كبير الرهبان لتقدم سن الطبيب وعدم قدرته صحيا على ترك الدير، كما يرفض الراهب طلبا لرجال الجماعة بتزويدهم بالأدوية لقلة الأدوية بالدير. وينجح «كريستيان» أخيرا فى الخروج برجال الجماعة من الدير بعد أن أقنعهم بالحجة ومقاطع من القرآن أن الأماكن المقدسة لا يصح تلويثها بالسلاح إلى جانب أمر الله للمسلمين بحرمانية قتل روح بغير ذنب. البقاء أم الهرب؟ منذ هذه اللحظة يدخل الرهبان فى صراع نفسى بعد أن وجدوا أنفسهم على شفا حفرة من القتل على يد تلك الجماعة الإرهابية التى اقتحمت دارهم بالسلاح وبعد اجتماع تشاورى انقسمت فيه الآراء بين البقاء فى الدير واستكمال مهمتهم التى أرسلهم الله لها وبين المغادرة إلى فرنسا أو أى بلد أفريقى آخر لتأدية رسالتهم بها. قرروا تأجيل اتخاذ هذا القرار لمرحلة لاحقة تكون الصورة قد اتضحت أكثر. ولكن رغم ازدياد الضغوط على رجال الدين المسيحى لمغادرة الجزائر سواء من فرنسا القلقة على أرواحهم أو من السلطات الجزائرية التى رأت فى وجودهم تهديدا لصورة البلاد فى حالة إصابتهم بأذى وأيضا لعلمهم أن الرهبان قاموا بعلاج رئيس الجماعة الإسلامية عند إصابته، إلا أن أهل الدير قرروا البقاء فى الجزائر ومساعدة أهل القرية الذين لم يتوقفوا عن طلب استمرارهم معهم رابطين أمنهم بوجود الرهبان بينهم. الفيلم ينتهى نهاية مأساوية بتعرض الدير يوم 26 مارس 1996 لهجوم من قبل الجماعة واختطاف سبعة من الرهبان، يعرض أهل الجماعة مقايضتهم مع الحكومة الفرنسية مقابل عدد من الجزائريين المحتجزين لديهم. وتنتهى القصة الواقعية بمقتل الرهبان بعد شهرين من اختطافهم والعثور على رءوسهم مفصولة عن أجسادهم وملقاة على قارعة أحد الطرق. وقد فتحت التحقيقات مؤخرا حول هذه الواقعة بعد ظهور أوراق تثبت تورط الجيش الجزائرى فى مقتل الرهبان عن طريق الخطأ. فيلم حفظ ماء الوجه. عُرض صباح اليوم التالى الفيلم الكورى الجنوبى شعر «Poetry» للمخرج «لى شاندونج». ويمكن اعتبار الفيلم أفضل الأفلام الآسيوية التى عرضت بالمسابقة حتى الآن بعد المستوى الضعيف الذى ظهرت به الثلاثة أفلام التى سبقت عرض هذا الفيلم الكورى، خاصة وأن فيلم المخرج الإيرانى عباس كياروستامى يشارك فى المسابقة حاملا الجنسية الفرنسية ولا يدرج ضمن أفلام آسيا. الفيلم الكورى يدور حول «مِيا» سيدة فى الستينيات من عمرها تعيش مع حفيدها المراهق وتقوم برعايته بعد أن ترك أمه له وانفصالها عن زوجها وانتقالها للعيش فى مدينة أخرى. تعمل الجدة لثلاث ساعات يوميا فى راعية رجل ثرى مسن يعانى من جلطة، بينما هى نفسها اكتشفت مؤخرا إصابتها بالمراحل الأولى لمرض الزهايمر. تلتحق «ميا» بمدرسة لتعليم كتابة الشعر إرضاء لشغفها القديم بهذا الفن، ولكنها تواجه مشكلة فى استحضار الإلهام اللازم للإبداع ولكتابة الشعر. ولكنها ملزمة بتسليم قصيدة شعرية مع نهاية الدورة التعليمية بعد شهر. تزداد حياة «ميا» تعقيدا عندما يصلها خبر تورط حفيدها مع خمسة من زملائه فى اعتداء جنسى على زميلة لهم فى الصف أدت إلى دفع الفتاة إلى الانتحار. صياغة شعرية من المخرج التدرج المتوازن فى الصعود بالقصة والانتقال من صراع إلى آخر أقوى منه دون اللجوء للمبالغة شىء يحسب للمخرج، والذى قام بكتابة السيناريو أيضا. والغريب أنه نجح فى توصيل المشاعر القوية والصراعات النفسية إلى المشاهد دون أدنى استخدام للموسيقى التصويرية طوال الفيلم. كما أن رسم المخرج لشخصية البطلة الرئيسية «ميا» به حرفية شديدة، فجعل تصرفاتها كلها متناسقة مع شخصيتها سواء فى إقبالها على الحياة، بتعلم الشعر فى سنها هذا ورفضها الاعتراف بمرضها وحمايتها لمن تحب واستعدادها للتضحية بأى شىء من أجل سلامته حتى لو استدعى ذلك التضحية بشرفها من أجل الحصول على المال اللازم لتعويض والدة الفتاة المنتحرة حتى لا تبلغ الشرطة بواقعة التعدى الجنسى على ابنتها. ولكن قد تكون أرقى مسئولية تحملتها «مِيا» هى التزامها رغم كل هذه الأزمات بتسليم واجب الشعر لمعلمها فى موعده مع باقة ورد رقيقة، حيث تصيغ قصيدة شعر على لسان تلك الفتاة وهى تودع العالم قبل لحظات من إقدامها على الانتحار، لتجعل من الفيلم كله فى هذه اللحظة سواء فى تكوينه أو أثره على النفس قصيدة شعرية غاية فى القسوة والعذوبة فى آنٍ واحد.