ما نراه فى اليونان هو دوامة الموت لدولة الرفاه. ولا تقتصر المشكلة على اليونان وحدها، وهو ما جعل الأزمة تحدث اضطرابا فى الأسواق العالمية وتهدد التعافى الاقتصادى. وتواجه جميع الدول المتقدمة تقريبا بما فى ذلك الولاياتالمتحدة الاحتمالات نفسها. فقد وُعِد المسنون فى تلك الدول بمزايا ضخمة فيما يتعلق بالرعاية صحة ورواتب التقاعد، فى الوقت الذى لا تكفى فيه الضرائب لتغطيتها بالكامل. وإذا كان يوم الحساب قد حل فى اليونان، فإن هذا اليوم ينتظر معظم المجتمعات الغنية. يكره الأمريكيون لفظ «دولة الرفاه» ويستعيضون عنه بكلمة «استحقاقات» الأكثر لُطفا. لكن المفردات لا تغير من الحقيقة. فلا يمكن لأى بلد الاستمرار فى الإنفاق والاقتراض بما يتجاوز طاقته إلى الأبد. وعندما تُرجئ الحكومات اتخاذ القرارات الصعبة بشأن الإنفاق والضرائب، فهى تخدع نفسها وتصل إلى طريق مسدود. ولا شك فى أن المأزق الذى تواجهه اليونان عادة ما يوصف باعتباره أزمة أوروبية، خاصة فيما يتعلق باليورو، تلك العملة المشتركة لست عشرة دولة. ويعد هذا الوصف صحيحا إلى حد معين. بدأ العمل بعملات اليورو المعدنية والورقية فى عام 2002. ومن الواضح أن هذه العملة لم ترق إلى مستوى التوقعات. إذ كان مفترضا أن يؤدى اليورو إلى تسارع النمو عبر التخلص من التكلفة والارتباك الناتجين عن التحويل بين العملات الوطنية. ولعل الأمر الأهم هو إمكانية التشجيع على الوحدة السياسية بين الدول الأوروبية. وفى ظل العملة الموحدة، يشعر الناس أنهم «أوروبيون»، حيث تنصهر هوياتهم كألمان وإيطاليين وإسبان تدريجيا فى هوية القارة. لكن أيّا من ذلك لم يحدث. إذ بلغ متوسط النمو الاقتصادى فى «منطقة اليورو» (أى البلدان التى تستخدم هذه العملة) 2.1% فى الفترة بين 1992 2001 و1.7% من 2002 إلى 2008. ولم يكن تعدد العملات قط عقبة كبرى فى طريق النمو، بل كان العقبات هى الضرائب المرتفعة والإفراط فى القوانين والإعانات السخية. وفيما يخص الوحدة السياسة، فقد أصبح اليورو الآن مصدر انقسام بين الأوروبيين. وبينما يقوم اليونانيون بأعمال شغب، تشعر الدول الأوروبية التى قدمت ما قيمته 145 مليار دولار كقروض لليونان خاصة ألمانيا بالاستياء من تكلفة خطة الإنقاذ. ولم يعد فى الإمكان لعملة واحدة أن تحل محل الهويات الوطنية، مثلما لا يؤدى شرب الكوكاكولا بالناس إلى أن يصبحوا أمريكيين. وإذا ما لاقت بلدان أخرى فى منطقة اليورو (كالبرتغال وإسبانيا وإيطاليا) مصير اليونان أى فقدان الحكومات لثقة السوق وعجزها عن الاقتراض فى ظل معدلات معقولة فسوف يتسع نطاق الأزمة. لكن القضية الأساسية ليست هى اليورو، حتى إذا كانت اليونان غير قادرة بسبب العملة الموحدة على تخفيض عملتها من أجل تخفيف حدة المشكلة الاقتصادية. ويمثل عجز الموازنة والديون المشكلة الأساسية، وهذه بدورها ترجع إلى المزايا المتعلقة بالرفاه (كالتأمين ضد البطالة والإعانات المقدمة إلى كبار السن والتأمين الصحى) التى وفرتها الحكومات الحديثة. تعانى الحكومات فى كل مكان من عجز كبير فى الموازنة. بل تزايد هذا العجز بفعل الركود. وتمثل اليونان حالة استثنائية فقط فيما يتعلق بحجم العجز، حيث بلغ 13.6% من إجمالى الناتج المحلى (وهو ما يعد مؤشرا على حالة الاقتصاد)، وكذلك فيما يتعلق بالدين الذى بلغ 115% من إجمالى الناتج المحلى. وفى إسبانيا، بلغ العجز 11.2% من إجمالى الناتج المحلى الإجمالى، بينما تمثل نسبة الدين 56.2%. وفى البرتغال بلغت كل من نسبة العجز والدَّين إلى إجمالى الناتج المحلى 9.4% و76.8% على التوالى. وبالمقارنة بالولاياتالمتحدة، تختلف النسب اختلافا طفيفا، حيث بلغت 9.9% و53% على التوالى. وبالرغم من عدم وجود قواعد صارمة بشأن ما يمكن اعتباره معدلات كبيرة إلى حدود مفرطة، فإن الأسواق المالية البنوك والمستثمرون ممن يشترون سندات حكومية تشعر بالقلق. ويجعل تزايد نسبة المسنين الصورة أكثر سوءا. ففى اليونان، من المتوقع أن ترتفع نسبة السكان ممن هم فى عمر الخامسة والستين فصاعدا من 18% عام 2005 إلى 25% عام 2030. وفيما يتعلق بإسبانيا، سوف ترتفع هذه النسبة من 17% إلى 25% فى الفترة نفسها. وتظهر دوامة الموت لدولة الرفاه على النحو التالى: تنذر معظم السياسيات التى تتخذها الحكومات فيما يخص الموازنة بنتائج سيئة، كالتباطؤ الاقتصادى أو الركود. وبفعل تضخم العجز الناتج عن هذه السياسات، نصبح إزاء خطر الأزمة الاقتصادية، لأن المستثمرين فى يوم ما لا يعلم أحد متى سوف يتشككون فى قدرة الحكومات على خدمة ديونها، ومن ثم لن يقبلوا الإقراض إلا فى ظل أسعار فائدة باهظة، مثلما حدث فى اليونان. وسوف يؤدى تخفيض المزايا الخاصة بالرفاه أو زيادة الضرائب إلى إضعاف الاقتصاد، على الأقل مؤقتا. والأمر الأسوأ أن ذلك سوف يجعل من الاستمرار فى الوفاء بالمزايا المتعلقة بالرفاه أمرا أصعب. توضح حالة اليونان هذه الصلة. فلكى تستطيع اليونان الحصول على قروض من الدول الأوروبية الأخرى وصندوق النقد الدولى، فقد أقرت موازنة متقشفة، حيث سينخفض متوسط المعاشات بمعدل 11% وتنخفض رواتب العاملين فى الحكومة بمعدل 14%، وسوف يرتفع ضريبة القيمة المضافة من 21% إلى 23%. وسوف تغرق هذه الإجراءات اليونان فى ركود عميق. وفى 2009، بلغت نسبة البطالة نحو 9%، بينما يتوقع بعض الاقتصاديين أن ترتفع إلى نحو 19%. وإذا اقتصرت هذه المشكلات على عدد قليل من الدول، فسوف يكون الحل سهلا، حيث سيتوجب على البلدان سيئة الحظ تقليص موازناتها ومعاودة النمو عبر التصدير للدول التى فى وضع أفضل. غير أن البلدان المتقدمة تمثل نحو نصف الاقتصاد العالمى، ومعظمها تمثل دول رفاه عليها التزامات تفوق طاقتها. وربما تقوم هذه الدول بتقليل حدة الأخطار عبر تقليص المزايا الاجتماعية فى المستقبل بطريقة تُطمئِن الأسواق المالية. لكنه على الصعيد العملى، لم تقم تلك الدول بذلك. وفى حقيقة الأمر، أدى برنامج الرئيس أوباما للرعاية الصحية إلى زيادة المزايا الاجتماعية. فما الذى سيحدث إذا أصبحت جميع هذه الدول فى وضع اليونان؟ توجد إجابة واحدة هى حدوث انهيار اقتصادى آخر، وهو ما يبين أن تضييع الوقت يمثل خطرا شديدا