اللجنة العامة بالنواب توافق علي موازنة المجلس    أكاديمية مصر للطيران للتدريب تجتاز تفتيش وكالة الاتحاد الأوروبي للسلامة EASA    «مياه سوهاج»: بدء برنامج التدريب الصيفي لطلاب المعاهد والجامعات خلال شهر يوليو المقبل    مصدر رفيع المستوى: مصر تتمسك بإدخال نحو 350 شاحنة مساعدات لغزة يوميًا    فيديو.. مصر تواصل تحركاتها لتقديم المساعدات الإنسانية العاجلة إلى أهالي قطاع غزة    محمد كمال مديرا فنيا لفريق الكرة النسائية في البنك الأهلي    علاء نبيل يعدد مزايا مشروع تطوير مدربي المنتخبات    إصابة 12 شخصا في انقلاب ميكروباص على طريق الفيوم الصحراوي    جورج وسوف يحضر لأغنية جديدة باللهجة المصرية (تفاصيل)    «رجلي اتكسرت».. سوسن بدر تكشف كواليس إصابتها أثناء تصوير «أم الدنيا» (فيديو)    قصور الثقافة تختتم مشاركتها في المهرجان الدولي للطبول بعروض فرقة الإسماعيلية    لمواليد برج الحمل.. التوقعات الفلكية لشهر يونيو 2024 (التفاصيل)    رمضان عبد المعز: جوهر الشيء الخضوع التام لله    لمدة يومين.. صحة مطروح تطلق قافلة طبية مجانية بمنطقة فوكة    التنمية المحلية: 1.1 مليار جنيه استثمارات لتطوير منظومة المخلفات بالجيزة    مفاجأة.. مدرب ليفربول يحسم مستقبل محمد صلاح    خاص رد قاطع من نادي الوكرة على مفاوضات ضم ديانج من الأهلي    هل يشارك الأهلي في مهرجان اعتزال خالد سعد مقابل مليون دولار وطائرة خاصة؟    إطلاق الدورة التوعوية لكيفية الاستخدام الآمن لخدمات الإنترنت بأسوان    تركي: انتظام أعمال تفويج حُجَّاج السياحة.. والجميع متكاتف لإنجاح الموسم    هتجيب الدرجة النهائية فى الفيزياء للثانوية العامة لو راجعت معانا.. فيديو    البورصة المصرية.. هبوط جماعى للمؤشرات بأولى جلسات شهر يونيو    «التنظيم والإدارة» يتيح الاستعلام عن نتيجة التظلم للمتقدمين لمسابقة معلم مساعد    عميد الكلية التكنولوحية بالفيوم يتفقد لجان امتحانات الفصل الدراسي الثاني    600 بالون قمامة.. كوريا الشمالية تعاقب جارتها الجنوبية بالنفايات (فيديو)    الهويّة السرديّة: مقاربة نقدية في رواية موسم الهجرة إلى الشِّمال    آخرهم نسرين طافش.. نجوم كشفوا عن وصيتهم للجمهور    طرق حديثة وحماية من السوشيال.. أحمد حلمى يتحدث عن طريقة تربية أولاده (فيديو)    توني كروس يصل ل300 انتصار مع الريال بعد التتويج بدوري أبطال أوروبا    سنن الأضاحي وشروط الأضحية السليمة.. تعرف عليها    موعد وقفة عرفات والأدعية المستحبة.. تعرف عليها    الإفراج عن المحبوسين على طاولة الحوار الوطني    في دقيقة واحدة.. طريقة تحضير كيكة المج في الميكروويف    اليوم العالمى لمواجهة الحر.. كيف تحمى نفسك من النوبات القلبية؟    برلماني أيرلندي ينفعل بسبب سياسة نتنياهو في حرب غزة (فيديو)    تأجيل محاكمة المتهمين بقتل مسن في روض الفرج    تأجيل إعادة إجراءات محاكمة متهمين ب "جماعة حازمون الإرهابية" ل 2 سبتمبر    كولر يوجه صدمة قوية لنجم الأهلي (خاص)    محمد الشيبي.. هل يصبح عنوانًا لأزمة الرياضة في مصر؟    4 أعمال مستحبة في العشر الأوائل من ذي الحجة.. احرص عليها    الأهلي يكرم فريق سيدات اليد    الاحتلال الإسرائيلي يواصل قصفه قرى وبلدات جنوبي لبنان    العمل: 3537 فُرصة عمل جديدة في 48 شركة خاصة تنتظر الشباب    توجيه جديد لوزير التعليم العالي بشأن الجامعات التكنولوجية    مفتي الجمهورية: يجوز للمقيمين في الخارج ذبح الأضحية داخل مصر    بدء تفويج حجاج القرعة من المدينة المنورة الى مكة المكرمة    وزير الإسكان ومحافظ الإسكندرية يتفقدان مشروع إنشاء محور عمر سليمان    وزير المالية: مشكلة الاقتصاد الوطني هي تكلفة التمويل داخل وخارج مصر    تحرير 139 مخالفة للمحلات غير الملتزمة بقرار الغلق لترشيد الكهرباء    النواب يحيل 3 اتفاقيات للجان النوعية في بداية الجلسة العامة .. اعرف التفاصيل    توريد 125 طن قمح لمطحن الطارق بجنوب سيناء    في زيارة أخوية.. أمير قطر يصل الإمارات    غرفة الرعاية الصحية: القطاع الخاص يشارك في صياغة قانون المنشآت    تحرير أكثر من 300 محضر لمخالفات في الأسواق والمخابز خلال حملات تموينية في بني سويف    محافظ كفر الشيخ يعلن أوائل الشهادة الإعدادية    وزيرة التخطيط ل"النواب": الأزمات المتتالية خلقت وضعًا معقدًا.. ولابد من «توازنات»    لتحسين أداء الطلاب.. ماذا قال وزير التعليم عن الثانوية العامة الجديدة؟    قصواء الخلالى ترد على تصريحات وزير التموين: "محدش بقى عنده بط ووز يأكله عيش"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العالم عند مفترق طرق
نشر في الشروق الجديد يوم 15 - 05 - 2024

قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الأخير فى شأن القضية الفلسطينية أثار من جديد، بين ما أثار، مسألة بالغة الأهمية. إذ جاء القرار فى لحظة كثر فيها حديث خبراء العلاقات الدولية وبخاصة المهتم منهم بقضايا الشرق الأوسط عن المكانة المتراجعة للولايات المتحدة الأمريكية. لاحظنا أن فى جانبًا من هذا الحديث اختار المتحدثون تبرير التراجع فى المكانة، أو تفسيره، ضمن حالة أكثر شمولًا وعمقًا فى التفاعلات الجارية فى النظام الدولى، وهى ما صار يعرف بمزاج الانعزال لدى عدد متزايد من الدول الأعضاء فى النظام أو/ وبموجة الدول الواقعة تحت عقوبة العزل والإبعاد عن فعاليات النظام بسبب الخروج أو الزعم بالخروج على القواعد المعمول بها.
• • •
حال الدول فى النظام الدولى كحال الأفراد فى النظام السياسى لكل دولة على حدة. لاحظنا حتى تأكدنا من حقيقة أن نسبة متزايدة من الأفراد صاروا يتعرضون لحال الانعزال أو حال العزل وما يستتبعهما من شعور بالوحدة، وفى أحوال قصوى، بالرغبة أو الميل للانتحار. أهتم بمتابعة الظاهرة، وهى ليست جديدة أو طارئة على كل حال، باحثون ومفكرون فى أنحاء كثيرة وتخصصات عديدة، من بينها علم النفس اهتموا بها. خرج هؤلاء علينا بأفكار مهمة يمكننى تلخيص بعضها فيما يلى:
أولًا: تشهد معظم الدول فى العقود الأخيرة زيادات مطردة فى عدد سكانها. ازدحمت الطرق والمدارس ومواقع العمل ووسائل المواصلات. هذه الزيادات تسببت فى ضغوط شتى على حرية الحركة والتنقل وصعوبات فى خدمات التعليم والصحة وتضييق فى مساحات العمل والرفاهة، تسببت بالتالى فى ضيق بل فى أزمات نفسية حادة. كتب أحد الفلاسفة فى وصف هذه الحالة قائلًا: إنها أشبه ما تكون بحال «الانسحاب العظيم» للفرد العادى من المجتمع الذى يعيش فيه.
ثانيًا: شملت الزيادة قطاعًا مهمًا من السكان، وهم كبار السن. هؤلاء بطبيعتهم انعزاليون بالمزاج أو بالفرض المجتمعى. هؤلاء يضجون من الضجة والصخب المحيط بهم من كل مكان فيختارون، أو هم يجبرون على اختيار، الانعزال. هنا يتولد عند نسبة غير قليلة شعور بالوحدة ناتج عن حياة العزلة أو الانعزال، أى عن انفرادية التفاعل إن صح التعبير. الانفرادية تستبعد بحكم التعريف المشاركة وتعتمد درجة أعلى من الاستقلالية أو وهو الأهم وربما الأخطر درجة عالية من «النفسنة» ومن حب الذات أو تقديسها وربما درجة لا بأس بها من شعور بالعظمة المبالغ فيها أو باليأس الذى عادة ما يصيب المحبوس فى سجن انفرادى.
ثالثًا: تفاقمت مشكلة الانفرادية وعلامات وتصرفات ناتجة عن الشعور بالوحدة بين سكان دول تعرضت مؤخرًا لأوبئة، مثل الكورونا أو لكوارث طبيعية. لاحظنا هذه الحالة فى مصر، حيث وقع ميل واسع من جانب المواطنين لتجنب المشاركة فى المناسبات الاجتماعية بل وفى حالات كثيرة امتنع كثيرون عن الذهاب لأعمالهم وزادت نسبة من فضلوا، إن سمحت ظروف العمل، أداء مهامهم من منازلهم. لوحظ فى الوقت نفسه تغيير فى السلوكيات والعلاقات نتيجة الشعور المتزايد بالوحدة وبغيرها من سلبيات الانفرادية فى السلوك والتفاعلات مع الغير وبخاصة مع السلطة وممثليها.
رابعًا: لا جدال أنه فى غياب التعددية السياسية والأحزاب والنقابات وأجهزة التواصل الإعلامى وحريات التعبير والتنقل يزداد ميل الإنسان للتقوقع والانفراد فى التصرف، وبالتالى يتفاقم شعوره بالوحدة ومعه الرغبة فى الاختفاء أو عدم المشاركة وفى النهاية يغلب اليأس والإحباط فالانزواء. هذا فى حد ذاته تهديد مستتر للاستقرار، فالإنسان المشارك فضلا عن أنه أداة بقاء ورقى الدولة، هو أيضا الهدف الذى من أجله قامت وتبقى.
• • •
صدق الأولون من علماء السياسة عندما رفضوا الفصل المطلق بين الداخل والخارج فى دراسة علوم السياسة. توقفت طويلًا أمام العناصر التى تتسبب فى صنع الإنسان، ولا أقول المواطن، الذى يختار الانعزال أو يرضى بالعزلة المفروضة عليه. رحت أقارنها بالعناصر التى تتسبب فى صنع الدولة التى تختار الانعزال أو تلك التى ترضى بعزلة تفرض عليها. رحت أراجع وأتذكر وأقارن.
سويسرا مثلًا اختارت الانعزال وأسمته حيادًا. فى قارة تشهد من عشرات العقود حروبًا لا تتوقف، أهلكت فى طريقها امبراطوريات ودمرت مئات المدن، وأطلقت العنان لهجرات وهجرات مضادة.
• • •
أحدهم سألنى إن كنت أعتبر الولايات المتحدة فى وضعها الراهن ومع استمرار حرب إسرائيل وأمريكا ضد الشعب الفلسطينى وبخاصة حرب الإبادة التى تشنها إسرائيل بخاصة ضد شعب غزة، أعتبرها دولة فى حال انعزال. واستطرد فى السؤال، أو أضاف سؤالًا إلى سؤال، قال فإن اعتبرتها فى حال عزل أو انعزال فهل لاحظت على سلوكها تغييرًا، وبدقة أشد ألست شاهدًا مثلى على دولة عظمى تتصرف تصرفات دولة تشعر بالوحدة، وهى عضو فى نظام دولى غاص بالأمم بل هى وبالاسم ما تزال تحمل صفة القائد أو المهيمن فى هذه الجماعة؟ ألم تنتبه إليها وبعض تصرفاتها تعبر عن حالة إحباط؟ ألا تراها كما أراها دولة عظمى محبطة؟.
• • •
يردد خبراء السياسة الدولية ما يعتقدون أنه صار من قواعد الفهم للسلوك السياسى للدول، كما فى السلوك السياسى للأفراد داخل كل دولة، أن أمورا ثلاثة تتسبب واحدة منها على الأقل فى إثارة الرغبة فى الانعزال عن الجماعة، وهى الحالة التى يصاحبها الشعور بالوحدة وتصرفات تعكس حالة مزيج من المشاعر والطموحات المحبطة. أما هذه القواعد فمنها: (1) خروج القوة الأعظم المهيمنة على قواعد النظام الدولى، وأكثرها من صنع هذه الدولة القائد نفسها، وتمرد دول متزايدة العدد. (2) المبالغة فى ممارسة الهيمنة تحت عنوان قيادة النظام الدولى. (3) الشكوك المتزايدة لدى عدد كبير من الدول فى نجاعة النظام الدولى القائم وبخاصة قدرته على تحقيق الاستقرار والأمن الدوليين. لا يفوتنى فى هذا الصدد أن ألفت النظر إلى مدى انطباق قواعد الفهم هذه على سلوك الدول الأعضاء فى النظام الإقليمى كما الدولى.
• • •
كثيرة هى النماذج فى التاريخ المعاصر التى تستحق العودة لدراسة نهج سياساتها الخارجية، والداخلية، خلال انعزالها أو عزلها. كوبا كانت ولا تزال نموذجًا لحال دولة صغيرة فرض عليها العزل. الصين الشعبية مارست هذا الدور لعقود قبل أن تقرر الولايات المتحدة حاجتها لوجودها قطبًا مشاركًا. كوريا الشمالية نموذج فريد لرد فعل دولة صغيرة تعرضت للعزل من جانب القوة الأعظم فتحولت إلى قوة حشد شامل غير مسبوق وتهديد كامن لأمن النظام الدولى. إسرائيل نموذج آخر فريد. عاشت لفترة غير قصيرة تحت قرار إقليمى بالعزل تجاوزته بشن حرب شبه دائمة على الإقليم الذى فرض عليها العزل وبالاندماج العضوى فى النظام السياسى للدولة الأعظم. تايوان تقف برد فعلها أيضا فريدة. فضلت أن تستمر أداة فى صراع القمة الدولية واثقة من أن مصير عزلتها مقترن بظروف تفرض عليها عودتها جزءًا من الوطن الأم. سمعت صديقًا فى الصين يصف حالة تايوان، فورموزا سابقًا، بحالة دولة تعيش على فائض الزمن. عشت دهرًا أحاول فهم ما قصد.
لكل من هذه الدول- النماذج سيرة حياة. كل منها اختط لنفسه سياسة خارجية تناسب ظروف العزل أو الانعزال وتتلاءم مع هدف التخلص من هذا الوضع أو الاستفادة منه. كل منها عانى من ضغط إحباط أو خيبة أمل وانقسامات داخلية. كل منها عاش مراحل ارتباك وتردد وقلة ثقة فى الآخر عدوًا كان أم صديقًا.
• • •
أمامنا، وبالتحديد فى مقدم النظام الدولى الذى نعيش فى جنباته، دولة عظمى ارتكبت من السياسات والممارسات ما جلب عليها بوادر عزلة داخل نظام دولى هى صانعته وقائده. جلب أيضًا بالتبعية داخل قطاع مهم من نخبتها رغبة متنامية فى الانعزال وسلوكيات أفراد وأجيال تستحق منا المتابعة والانتباه.
• • •
الأمر جد خطير وكذلك الوضع والظرف، فالدولة القائد، بقوتها الجبارة وأثناء لحظات ارتباك وسيولة ومعايير مزدوجة وشباب منفعل بالغضب أو عدم الرضا، تشارك فى دعم حرب إبادة كبيرة تقرر شنها ضد شعب فلسطينى أعزل، تشارك أيضًا فى دعم حروب استعمار صغيرة فى دول عربية وإفريقية متزايدة العدد. الدولة صانعة القواعد الأخلاقية للنظام الدولى صارت بشكل من الأشكال متهمة بخرق هذه القواعد. الدولة المكلفة بحفظ الأمن والسلم الدوليين هى الآن متهمة بأنها تنشر الفوضى وتثير الشغب. الدولة الأمل صارت، فى اعتقاد شعوب العالم، مصدرًا للألم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.