صدر حديثًا عن دار نشر بلومزبري كتاب جديد للمؤرخة البريطانية وأستاذة التاريخ القديم بجامعة أوكسفورد، جوزفين كوين، بعنوان «كيف صنع العالم الغرب: تاريخ 4000 عام»، ناقشت من خلاله مفهومها عن نشأة الثقافات والحضارات حول العالم وتأثرها البالغ ببعضها البعض؛ لا سيما في العالم القديم. واستهلت الكاتبة بمثال الحضارة الغربية التي يخبرنا التاريخ عن منشأها في القرن التاسع عشر بجذورها المتأصلة في قلب مدينتيّ أثينا وروما الأثريتين وفروعها النابتة والممتدة عبر سلسلة من التطور التدريجي والتنوير الذي بلغ ذروته في أمجاد الإمبراطورية البريطانية. وقالت كوين إن مصطلح التفكير الحضاري؛ أي النابع من الحضارة المتفردة بذاتها بفصلها عن الحضارات الأخرى مصطلح خاطىء؛ بل وهو لب المشكلة التي تنشأ بين الثقافات ليس فقط في التاريخ القديم ولكن في الحياة السياسية الحديثة كذلك، وقد تحدث عن ذلك الأمر - وتوقعه - عالم السياسة الأمريكي صموئيل هنتنجتون في كتابه «صراع الحضارات» (1996)؛ حين قال إن الحروب المستقبلية لن تحدث بين الدول بل بين الحضارات المتجانسة أو الأحادية مثل الغربية أو الإسلامية أو الإفريقية أو الصينية. فوفقًا لكوين؛ فإن الحضارة الغربية لم تكن لتنشأ من الأساس لولا تأثرها بالحضارات الإسلامية والأفريقية والهندية والصينية من حولها، ولفهم السبب، تأخذنا كوين في رحلة عبر الزمن لنرى كيف تبلور مفهوم الحضارات، ومحطتها الأولى كانت ميناء جبيل الصاخب في لبنان، والزمان حوالي عام 2000 قبل الميلاد، كان ذلك في منتصف العصر البرونزي، الذي افتتح حقبة جديدة من التبادل المنتظم بين المدن المختلفة لمسافات طويلة. إن تقنيات التأريخ بالكربون المطبقة على الاكتشافات الأثرية الحديثة توفر أدلة دامغة حول العولمة واسعة النطاق التي شهدها البحر الأبيض المتوسط ومدنه قبل 4000 سنة؛ حيث كان يتم تبادل السلع والبضائع بين الثقافات المختلفة بلا انقطاع؛ فذهب النحاس الويلزي إلى الدول الاسكندنافية، والقصدير الأصفر إلى ألمانيا لصناعة الأسلحة البرونزية، وتم العثور على حبات عنبر البلطيق في قبور النبلاء الميسينيين في بريطانيا، كما تم تصدير المراجل الأيرلندية إلى شمال البرتغال. وتمخضت تلك الحالة من التجارة والسفر المتواصلين عن اختلاط ثقافي كبير، ومثال لذلك كان تأثر سكان كريت بالنماذج الثقافية المختلفة من حولهم واندماجهم معها، قد جاء عبر ملاحظة المؤرخ الإغريقي بوليبيوس حول الرومان المحدثين: إنهم على استعداد على نحو غير عادي لاستبدال عاداتهم الخاصة بممارسات أفضل من أماكن أخرى. ويذخر الكتاب الجديد بالتفاصيل الرائعة التي تعيد الحياة إلى عالم ما قبل الكلاسيكية؛ ومن بين تلك التفاصيل رسائل تل العمارنة التي تم تبادلها بين ملوك مصر وقبرص وبابل وآخرين، والتي قالت كوين إنها تكشف أهمية التواصل بين ما يُنظر إليه عادة على أنه ثقافات أو حضارات قديمة منفصلة. وعن منشأ الثقافات، تحدثت كوين عن الثقافات الأبجدية المبكرة في مصر وأماكن أخرى، ولكنها لم تزل تنفي بقوة وجود حضارات أو ثقافات منفصلة على نفس بقعة الأرض في التاريخ القديم؛ فأشارت على سبيل المثال إلى أن فكرة أن الميسينيين والمينويين كانتا حضارتين منفصلتين هي فكرة حديثة نوعًا ما ولا تقتنع بها الكاتبة؛ لأن تلك المسميات كانت في البداية مجرد مسميات لنفس أفراد شعب بحر إيجه في العصر البرونزي ولكن من وجهات نظر مختلفة، وأوضحت أن حتى ثقافة بحر إيجه هذه لم تكن خاصة بطائفة واحدة من المدن؛ بل كانت تتألف من الكثير من المجموعات السكانية الصغيرة التي تتنافس وتتبادل الأفكار. وبالرغم من حالة الاندماج والانصهار تلك بين ثقافات العالم القديم، إلا أن كوين لم تنف ظهور ما يُعرف باسم الغرب أو الحضارة الغربية بحلول القرن التاسع عشر، وقالت إن الأمر بدأ بنمط من أنماط التنافس أو القطبية الثنائية التي وضعت أوروبا في مواجهة آسيا، وتلك القصة موجودة بالفعل في حكايات المؤرخ هيرودوت عن الحروب الفارسية؛ حين بدأ المسيحيون الفرنجة يعتبرون أنفسهم أوروبيين في أعقاب الفتح العربي. وفي النهاية، قد يتفق القراء على أنه ربما يكون من الأفضل عدم الحديث عن الحضارات بنبرة الفُرقة أو الصدام أو غير ذلك، فربما هي دعوة لاستعمال الكلمة بصيغة المفرد لنرى كيف سيكون وقعها على أسماعنا.