فى الرابع والعشرين من مارس الماضى، أُجريت الانتخابات الرئاسية فى السنغال، والتى أسفرت عن فوز مرشح المعارضة «باسيرو ديوماى فاى» بأكثر من 54% من الأصوات من الجولة الأولى، متفوقا على «أمادو با» مرشح ائتلاف «بينو بوك ياكار» (متحدون من أجل الأمل) الحاكم فى البلاد، حيث رفع هذا الائتلاف شعار «الاستمرارية» وهو لا يعنى بالنسبة لحوالى 60 % من الشعب السنغالى ممن يعيشون تحت خط الفقر سوى استمرار لأوضاعهم البائسة. وتقدم السنغال بهذه الانتخابات، والتى شهد مراقبون أوروبيون وأفارقة على نزاهتها وشفافيتها، نموذجا مميزا للتداول السلمى للسلطة، لاسيما فى منطقة غرب إفريقيا المضطربة سياسيا والتى تهيمن عليها مؤخرا موجة من الانقلابات العسكرية، كما أنها تكرس لمفهوم الاستقرار والحكم المدنى منذ استقلالها عن فرنسا فى عام 1960. وجاءت هذه الانتخابات أيضا لتؤكد أن إرث الديمقراطية فى السنغال هو ممارسة ثابتة وليست شكلية، خاصة بعد تقبّل الحزب الحاكم للخسارة، وتجنب الرئيس السابق «ماكى سال» الترشح للانتخابات لولاية ثالثة. ويأتى نجاح الانتخابات الأخيرة بعد عاصفة سياسية هزت المشهد العام فى البلاد، عندما قرر الرئيس السابق، «ماكى سال»، تأجيل الانتخابات فى فبراير الماضى، حتى نهاية العام، فحدثت مظاهرات واحتجاجات رافضة لقرار التأجيل، وأثار ذلك أعمال عنف واضطرابات خلّفت قتلى ومصابين، واستمرت أسابيع عدة وكانت اختبارا حاسما للديمقراطية فى السنغال، إلى أن تم تحديد موعد الرابع والعشرين من مارس موعدا لإجراء الانتخابات، بعد رفض المجلس الدستورى قرار الرئيس السابق بالتأجيل، فكان ذلك أحد أهم ملامح حماية الديمقراطية من خلال المؤسسة الدستورية. ورغم هذه الاضطرابات والأزمات السياسية والاحتجاجات العنيفة التى صاحبت إعلان تأجيل الانتخابات من جانب الرئيس المنتهية ولايته «ماكى سال»، أظهر الشعب السنغالى وفاءه لتقاليده التى دأب عليها منذ الاستقلال، وذلك بتمسكه بالتغيير السلمى عبر صناديق الاقتراع، بخلاف معظم الدول الأخرى فى المنطقة التى آلت فيها السلطة بالسلاح والانقلابات والتمرد، وهو ما انعكس فى مشاركة قرابة 7 ملايين ناخب فى الانتخابات، وسط أجواء هادئة وإقبال واسع من الشباب، وبلوغ نسبة المشاركة 65%، بنسبة أعلى من نسبة المشاركة فى الانتخابات المحلية والتشريعية الماضية، التى لم تتجاوز فيها نسبة المشاركة عن 50%. • • • استعاد «باسيرو ديوماى فاى» حريته بعد أن أمضى 11 شهرًا فى السجن بتهمة ازدراء المحكمة والتشهير ونشر أخبار كاذبة، وتم إطلاق سراحه بالتزامن مع إطلاق سراح زعيمه ورفيق دربه «عثمان سونكو» مؤسس ورئيس الحزب المعارض «حزب الوطنيين الأفارقة فى السنغال للعمل والأخلاق والأخوة (باستيف)»، والمسجون منذ يوليو 2023. ويأتى إطلاق سراحهما على خلفية صدور قانون العفو الذى اعتمدته الجمعية الوطنية فيما يتعلق ب«جميع الأفعال التى يمكن أن تعتبر الجرائم الجنائية أو الإصلاحية المرتكبة فى الفترة ما بين 1 فبراير 2021 و25 فبراير 2024، فى السنغال وخارجها، فيما يتعلق بالمظاهرات أو الأحداث ذات دوافع سياسية، بما فى ذلك تلك التى تصدر عن جميع وسائل الاتصال، سواء تمت محاكمة أصحابها أم لا». وتم تعيين «باسيرو ديوماى فاى»، البالغ من العمر 44 عامًا والغير معروف لعامة الناس، كمرشح بديل لحزب «باستيف»، والذى تم حله منذ يوليو الماضى من جانب السلطات السنغالية، بديلا للزعيم «عثمان سونكو» الذى تم منعه من الترشح لأسباب قانونية. وقد قدم «فاى» نفسه فى الخامس عشر من مارس الماضى، فى أول مؤتمر صحفى له كمرشح، إلى جانب «سونكو»، بعد خروجهما من السجن، وقال: «ها أنا باسيرو ديوماى فاى أمامكم حرًا طليقا إلى جانب عثمان سونكو كجزء من المشروع الذى نقوم بتنفيذه اليوم». ويشكل انتخاب «فاى» تغييرا تاريخيا فى انتقال السلطة بالسنغال، ذلك لأنها المرة الأولى التى لا يترشح فيها رئيس منتهية ولايته، ولم يسبق له أن تولّى أى منصب وطنى، كما أنه أصبح خامس رئيس للسنغال وأصغر الرؤساء سنًا فى تاريخ الدولة الواقعة فى غرب إفريقيا. • • • وصول «باسيرو ديوماى فاى» إلى قصر الرئاسة فى داكار قد ينهى الارتباط الخاص القديم بين السنغالوفرنسا. فخلال حملته الانتخابية أعلن «فاى» أنه يؤيد القطيعة مع السياسات السابقة، فى إشارة لا تخطئها العين، لتغيير نمط العلاقة مع باريس. كما نجد فى برنامجه الانتخابى دعوة صريحة لمراجعة العلاقات مع فرنسا وإعادة بنائها على قاعدة الندية وتبادل المنافع والمراعاة الحرفية لسيادة السنغال واستقلالية قراره. يندرج هذا التوجّه ضمن مطلب «فاى» بإعادة التفاوض حول اتفاقيات التعاون الدفاعى المبرمة مع فرنسا، بالإضافة إلى نيته المعلنة فى مراجعة اتفاقيات الغاز والنفط والصيد مع شركاء السنغال على نحو يحقّق أكبر استفادة ممكنة منها للبلاد. ولم ينكر «فاى» عمق علاقات بلاده التاريخية مع فرنسا خلال حملته الانتخابية، ولكنه أكد رفضه أن تكون هذه العلاقة على حساب السنغال أو أن تكون حائلاً أمام مشروع تنويع تعاون بلاده أمنيا وعسكريا مع شركاء دوليين آخرين. كما تعتبر رؤية «فاى» لفرنك المجموعة المالية الأفريقية (XOF) الموروث عن الحقبة الاستعمارية كسبب لتخلف الاقتصاد السنغالى وكأداة من أدوات الاستعمارية الجديدة التى توظفها فرنسا لتكبيل السنغال اقتصادياً مؤشّرا قويّا عن نيات القطيعة التى تنتظر الرئيس السنغالى الجديد. وإذا أقدم على هذه الخطوة فستكون ضربة أخرى للنفوذ الفرنسى فى غرب إفريقيا، ويوقف إنتاج الفرنك الغرب أفريقى فى باريس ثم ينهى ارتباطه باليورو. وسبق أن وعد «فاى» بأنه لن يتردّد فى صك عملة خاصة بالسنغال تحقق طموحه فى استكمال سيادته فى حال فشلت المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (الإيكواس) أو توانت عن صك عملة خاصة بدول المجموعة لأى سبب من الأسباب. • • • إن الطريق لن يكون سهلا وممهدا أمام الرئيس السنغالى الجديد، إذ ينبئ الوضع المأزوم الذى أجريت خلاله الانتخابات السنغالية بحالة انقسام شديدة يشهدها البلد تصعّب تجسيد أى مشروع تغيير سياسى واقتصادي، كما أنّ حجم المؤامرات التى حيكت ضده هو ورفيق دربه «سونكو» طيلة السنوات الخمس الماضية وعمق الفساد الذى ينخر المنظومات السياسية والاقتصادية والقضائية السنغالية ينبئان بشدة على المقاومة والمعارضة التى ستواجهها سياسات الرئيس الجديد. ومن المؤكد أيضاً أن النخب الموالية لفرنسا والعاملة كأذرع لمشروعها فى السنغال وعموم غرب أفريقيا ستكون فى طليعة تيار رفض ومقاومة كل تغيير قد يؤدى إلى قلب معادلة علاقة السنغالبفرنسا أو حتى مجرّد تعديلها، وهذا ما يعلمه الأفارقة عن فرنسا ولوبياتها فى تجارب تغييرهم السابقة. • • • درس ديمقراطى أو بالأصح منجز تاريخى تمكن السنغاليون من تحقيقه فى خلال الانتخابات الماضية بدون تدخل أجنبي، ولا دعم خارجي، ولا حرب أهلية، ولا انقلابات عسكرية. لقد تمكنت قيم المواطنة من غرس جذورها فى التربة السنغالية، بعدما تنسم السنغاليون نسائم الحرية إبان خروج المستعمر الفرنسي، فصاروا من أشرس من يذود عن هذه النسائم. ففى قارة تعانى من العنف العرقى والسياسى الذى يكون ملاذاً لحل كل الخلافات، ما انفكت السنغال تقدم نموذجاً متفرداً من زاوية إيجابية للغاية عكس السائد فى هذه القارة. إن أسباب نجاح التجربة السياسية السنغالية تكمن فى إحاطة هذ البلد الأفريقى نفسه بقيم الحرية والتحرر واحترام الخصوصيات والتنوع الذى يعرفه المجتمع بهدف ضمان نجاحها، وحرص روادها على توظيف العوامل الداخلية لصالح بناء دولة مدنية ديمقراطية قائمة على إحقاق مواطنة كاملة لمختلف مكونات المجتمع السنغالى لا لخدمة مصالح أقلية معينة، مما مكّن الشعب السنغالى من تجاوز بعض الحواجز والتحديات الإثنية والعرقية والتى لا تزال تنخر النسيج الاجتماعى لعدد من الدول الأفريقية.