ينتشر الحديث فى الداخل الإسرائيلى عن مستقبل قطاع غزة ما بعد الحرب، ولكن السؤال الأهم الذى يجب أن يتم طرحه هو ما مستقبل إسرائيل ما بعد هذه الحرب؟ كل المؤشرات تؤكد أن مستقبل إسرائيل لن يعود كما كان عليه قبل السابع من أكتوبر سواء على المستوى العسكرى أو المستوى السياسى، فمعركة طوفان الأقصى التى قامت بها حركة حماس فى العمق الإسرائيلى أحدثت تغييرات جوهرية داخل إسرائيل لمصلحة القضية الفلسطينية. فعلى المستوى السياسى، فقد انهارت استراتيجية إدارة الصراع الإسرائيلى الفلسطينى من خلال عقيدة اللاحل التى انتهجها رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو طوال فترة حكمه والتى امتدت منذ عام 2009، واعتمدت على عدم إيجاد حل استراتيجى للقضية الفلسطينية. فدائما ما يُبعد القضية الفلسطينية عن أولويات سلم الأجندة السياسية الإسرائيلية والتقليل من أهمية إيجاد حل لها، تحت مبرر أنه يمكن تأجيلها لأجل غير مسمى من دون أن يؤثر ذلك على الأمن القومى الإسرائيلى، وخصوصا بعد حدوث الانقسام الفلسطينى واستمراره لأكثر من 16 عاما. والأكثر من ذلك، تأكيده على أنه يمكن القفز على القضية الفلسطينية وتجميدها بالكامل فى ظل سياسات إسرائيلية فى الضفة الغربية وقطاع غزة تديم الانقسام من جهة، وتفرض واقعا تهويديا استيطانيا من جهة أخرى، وبالتالى فتح الطريق أمام التطبيع العربى مع الدولة العبرية. اعتمدت سياسة إدارة الصراع وعقيدة اللاحل لنتنياهو على نقض الفرضية السائدة لدى المجتمع الدولى ودول المنطقة بأن القضية الفلسطينية هى مفتاح للسلم والحرب، وأن لها تأثيرات كبيرة فى استقرار منطقة الشرق الأوسط التى تعد من الأقاليم الأكثر أهمية للسياسة والاقتصاد العالميين. لذلك، سَوّق نتنياهو للدول الغربية وبعض دول المنطقة أن هناك إمكانية لإنشاء مشروعات كبرى مشتركة يمكن أن تتعاون بها إسرائيل مع هذه الدول بعيدا عن أى تأثيرات سلبية لعدم حل القضية الفلسطينية. • • • أما على المستوى العسكرى، فيمكن اعتبار السابع من أكتوبر هو يوم إعلان فشل استراتيجية إسرائيل المعروفة ب «المعركة بين الحروب»، وكل أساليبها المعتمدة على احتواء التهديدات المحيطة بها من خلال مواجهتها بشكل منخفض الوتيرة عسكريا وأمنيا من دون أن يصل ذلك إلى حرب شاملة مع حركة حماس أو مع حزب الله. لذلك، استخدمت إسرائيل استراتيجية «جز العشب» العسكرية تجاه قطاع غزة من خلال الاعتماد على الاستنزاف العسكرى ذات الأهداف المحدودة، وتقليل قدرة حركة حماس على إلحاق الأذى بها، وتحقيق ردع مؤقت، وكلاهما يتم تحقيقه من خلال عمليات واسعة النطاق من حين لآخر. ويتم تنفيذ هذه الاستراتيجية من خلال إجراء عمليات عسكرية قصيرة وقوية للحفاظ على مستوى معين من السيطرة على المنطقة دون الالتزام بحل سياسى طويل الأمد. وفى الجبهة الشمالية، حافظت إسرائيل على قواعد الاشتباك مع حزب الله التى كرستها نتائج حرب يوليو 2006، والاعتماد على تكتيكات استراتيجية «المعركة بين الحروب» الأمنية والعسكرية والضغوط الاقتصادية وافتعال الإشكالات الداخلية وغيرها. كل ذلك مع حرص إسرائيلى شديد على عدم بلوغ أى احتكاك مع حزب الله إلى حرب شاملة. وأحدثت استراتيجية «المعركة بين الحروب» تغيرات على المحددات الرئيسية للعقيدة العسكرية الإسرائيلية وقواعدها المعتادة، إذ إن هذه الاستراتيجية تتناقض مع مرتكز الحسم العسكرى للعدو، لكونها فى جوهرها استراتيجية إدارة صراع، وليست حسما له، لأن هدفها الرئيسى تفادى الذهاب إلى الحرب الشاملة وخفض التهديدات بالقدر الممكن التعايش معه، وليس إزالته بالكامل من جذوره، الأمر الذى انعكس على تغير مفهوم الحسم العسكرى الذى يعد إحدى الركائز الثلاث للعقيدة العسكرية الإسرائيلية التقليدية والتى تقوم على تحقيق نصر ساحق للعدو فى أى مواجهة معه، إلى درجة قتل رغبة مواصلة القتال لديه. • • • إن انتقال إسرائيل بعد السابع من أكتوبر من استراتيجية «المعركة بين الحروب» إلى استراتيجية الحرب الشاملة ومفهوم الحسم العسكرى الساحق وإزالة التهديد من جذوره يطرح علامة استفهام ضخمة حول قدرتها على تحقيق هذا الانتقال بسلاسة، وإلى متى سيبقى جيش الاحتلال الإسرائيلى يُقاتل، فبعد جبهة غزة تأتى الجبهة اللبنانية بعد ذلك. وقد ظهرت مؤخرا جبهة ثالثة قادمة من الجنوب وهى جبهة اليمن من خلال ما تقوم به جماعة الحوثى من هجمات ضد السفن التجارية فى البحر الأحمر ولاسيما السفن الإسرائيلية والتى تعتبر جبهة تهديد بحرى وعسكرى. وقد شنّت الولاياتالمتحدة وبريطانيا مؤخرا ضربات جوية على أهداف عسكرية للجماعة ردا على هذه الهجمات. وقد فتحت هذه الضربات الباب أمام عدة مسارات سواء للتصعيد فى البحر الأحمر، أو للصراع المفتوح بين إسرائيل والولاياتالمتحدة من جهة وإيران وجماعة الحوثى من جهة أخرى، حيث سيتوقف ذلك على رد فعل جماعة الحوثى على تلك الضربات والتى من المنتظر أن يكون عنيفا وسيستهدف المصالح الأمريكية والبريطانية فى المنطقة، إلى جانب حسابات إيران إزاء استمرار التصعيد فى اليمن ضد جماعة الحوثى، حيث إنها ما زالت حتى الآن حريصة على ضبط حدود انخراطها هى ووكلائها فى التصعيد ضد الولاياتالمتحدةالأمريكية وإسرائيل. بالإضافة إلى ذلك، توجد جبهة أخرى لا تقل أهمية عن الجبهة الخارجية وهى الجبهة الداخلية الإسرائيلية، فهل ستتحمل هذه الجبهة الأخيرة تبعات تلك الحروب وتكاليفها ودمارها؟ وهل تتحمل فعلا أن تبقى إسرائيل تعيش على أسنة حراب رماحها العسكرية؟ • • • هناك سؤال مرتبط بالتحالف الأمريكى الإسرائيلى، فإلى متى ستبقى الولاياتالمتحدةالأمريكية تدعم إسرائيل فى كل تلك الحروب؟ ألن يتعارض هذا الدعم الأمريكى اللامتناهى مع مصالحها كدولة عظمى فى ظل تغيرات فى خارطة المنظومة الدولية؟ وعلى فرض تحمل الجبهة الداخلية الإسرائيلية تبعات تلك الحروب، وأن الولاياتالمتحدةالأمريكية وضعت مصلحة انتصار إسرائيل فى كل تلك الحروب قبل مصالحها ومصالح شعبها، واستطاعت إسرائيل حسم حرب غزة، ومن ثم حسم حرب حزب الله ومن بعده حسم حروب اليمن وسوريا والعراق، يبقى هناك سؤال أساسى أكثر خطورة واستراتيجية بعد تلك الحروب التى على الأقل ستحتاج إلى سنوات من القتال، والآلاف من الخسائر البشرية، وستكلف الاقتصاد الإسرائيلى مئات مليارات الدولارات من الخسائر، وستؤدى إلى انهيارات اقتصادية كارثية: هل ستكون إسرائيل فى وضع يسمح لها من مواجهة التهديد الإيرانى الذى تعتبره التهديد المركزى، وكما يُطلق عليه فى الدوائر الإعلامية والعسكرية الإسرائيلية «رأس الأخطبوط»؟ فقد قررت إسرائيل منذ ما يقرب من 3 سنوات وضع حد للسياسة القديمة تجاه إيران بشكل استراتيجى والكف عن التعاطى معها فقط من خلال ضرب أذرعها بسبب ما تتمتع به من حصانة، وأنشأت معادلة جديدة قائمة على التوجه «لرأس الأخطبوط مباشرة»، وقد يؤدى ذلك التوجه الإسرائيلى إلى دخول المنطقة منعطفا جديدا نحو نزاع إقليمى واسع لن يقتصر على إيران وإسرائيل، بل سيصيب دول المنطقة بأكملها. يبقى مستقبل إسرائيل بعد حرب غزة مرهونا بإدراكها أن استراتيجيتها التى بنيت على إدارة الصراع سياسيا وعسكريا دون حله ما كانت إلا وهما كبيرا كان يسوقه الساسة الإسرائيليون، وخصوصا بنيامين نتنياهو، صاحب أطول فترة حكم بين رؤساء وزراء إسرائيل، وصاحب تلك الفرضيات التى تلاشت فى السابع من أكتوبر؛ ذلك اليوم الذى تفجرت به القضية الفلسطينية فى وجهه وفرضت نفسها بقوة وحجزت موقعها الطبيعى فى مقدمة سلم الأجندة الدولية والإسرائيلية فى وقت واحد، بل باتت استراتيجية اللاحل الإسرائيلية وإدارة الصراع غير مقبولة لدى من تبقى من العقلاء فى المجتمع الإسرائيلى، والأهم لدى أطياف واسعة ومؤثرة داخل المجتمع الدولى على المستوى الرسمى والشعبى، وأنه دون حل ينهى معاناة الشعب الفلسطينى ويمنحه حقه بالحرية والاستقلال وإقامة دولته المستقلة، لا توجد أى قوة عسكرية، مهما تعاظمت غطرستها، يمكن أن تضمن استقرار منطقة الشرق الأوسط وأمنها وسلامها وازدهارها.