«الشروق» تزور أكبر المصانع الروسية لمعدات الأمن الغذائي

من موسكو إلى سان بطرسبرج حضر الاقتصاد وتوارت السياسة..

• جرارات ذات محركات هائلة وماكينات لتغليف وتعبئة الحبوب ومنتجات الألبان يتم إنتاجها داخل ورش عملاقة
• تعويل روسى على «بريكس بلس» فى تدعيم سلاسل توريد الحبوب
• خبراء روس يعرضون رؤية بلادهم للتعامل مع أزمة الغذاء العالمى
• مسئولة صناعية: نسعى للتعاون بين رجال الأعمال المصريين والروس فى مجال إنتاج الألبان
وسط 29 صحفيا جاءوا من المنطقة العربية وبلدان إفريقية وأخرى آسيوية شارك وفد يمثل الصحف المصرية بينها «الشروق» فى جولة استغرقت 7 أيام فى ظل درجات حرارة بلغت أحيانا 18 تحت الصفر وشملت عددا من المصانع والشركات المغذية لمشروعات الأمن الغذائى فى ثلاث مدن روسية هى موسكو وسان بطرسبرج ونوفوروسيسك على البحر الأسود حيث الميناء الأكبر لتصدير الحبوب والطحين.
حفلت الجولة بلقاءات موسعة مع المسئولين الروس عن مشروعات الأمن الغذائى داخل روسيا وتلك المعدة للتصدير وفق تعاقدات مع الحكومة الروسية والبلدان التى تعتبرها موسكو ضمن شركائها لتوفير الغذاء لشعوبها وخاصة الدول التى تنتمى إلى مجموعة «بريكس بلس» التى ستصبح مصر عضوا فيها رسميا فى شهر يناير المقبل.
بداية جولة
«مرحبا بكم فى مسقط رأس ألكسندر بوشكين»، بهذه العبارة التى كتبت بالروسية والإنجليزية مع رسم تجريدى للقطة جانبية «بروفيل» لشاعر روسيا الأعظم (1799 1837) استقبلنا الجزء المخصص لضباط الجوازات فى مطار موسكو الدولى، فى دلالة رمزية على اهتمام الدولة الروسية بقواها الناعمة التى صنعت الصورة الرومانسية فى مخيلة العديد من محبى الأدب الروسى حول العالم.
صباح اليوم التالى لوصولنا إلى موسكو استقبلتنا فى بهو الفندق إيفجينيا بافليوكوف مساعد مدير مؤسسة «مايند ميس Mind Mice» المشرفة على الرحلة التى جاءت بدعوة من المراكز الثقافية الروسية حول العالم، وبالتنسيق مع المركز الثقافى الروسى فى القاهرة الذى يديره مراد جاتين ويتولى إدارة نشاطه الثقافى الدكتور شريف جاد.
بعد عبارات المجاملة التقليدية طالبتنا السيدة بالاستعداد للانتقال بالحافلة إلى مقر وكالة «أيما برس للإعلام». وداخل قاعة اجتماعات فسيحة تجمع صحفيون من مصر والمغرب ولبنان والأردن وسوريا والكونغو وتنزانيا وإثيوبيا وتركيا وقيرغيزستان حيث كان فى انتظارنا عدد من المسئولين والأكاديميين الروس لتبدأ مناقشات تمهيدية للجولة الصحفية، حملت عنوان «الحبوب كأداة لتحقيق إمكانات التصدير الروسية فى السوق العالمية».
فى البداية أعلن أنطون تشيرمينسكى، رئيس قسم سياسة المعلومات فى وكالة Rossotrudnichestvo، والذى أدار النقاش، عن تنظيم مؤتمر موسع حول الأمن الغذائى فى إحدى الدول الإفريقية العام المقبل. وخلال اللقاء، تم عرض فيلم تسجيلى بعنوان «رد فعل روسيا» تناول قضية الأمن الغذائى على الصعيد العالمى، وشرح أبعاد القرار الذى اتخذته روسيا بتقديم الدعم الإنسانى للحبوب إلى البلدان الأفريقية الأكثر احتياجا.
ولمزيد من التوضيح لرؤية روسيا فى التعامل مع أزمة الغذاء العالمى تحدثت أناستاسيا ليخاتشيفا، عميدة كلية الاقتصاد العالمى والسياسة الدولية فى المدرسة العليا للاقتصاد قائلة «على مدى العام الماضى، شهد العالم زيادة فى إنتاج الغذاء بنسبة 2 بالمائة، ولكن عدد الجياع زاد بنسبة 10 فى المائة، واليوم لا يستطيع أحد أن يعد بمكافحة الجفاف أو الجراد أو الفيضانات، وبالتالى نحن بحاجة إلى توازن مصالح الدول والمجتمع وقطاع الأعمال».
وأشارت إلى «ضرورة العمل بمبدأ عدم تجزئة الأمن الغذائى، فهناك حاجة إلى نظام الإبلاغ فى حالات الطوارئ وأن تكون درجة الثقة أعلى مما هى عليه فى علاقات السوق العادية. ولأن أدوات السوق تفشل فى حل قضايا الجوع، فمن الضرورى إنشاء شكل جديد للحوار، مشيرة إلى أن ساحة مجموعة «بريكس بلس» تتمتع اليوم بفرصة جيدة للغاية فى هذا الشأن.
ومع تركيز الأكاديمية الروسية على الجوانب الاقتصادية فى أزمة الغذاء العالمية طرحت عليها «الشروق» سؤالا عن مدى القدرة على عزل السياسة عن الاقتصاد فى أزمة الغذاء؟
وجاء ردها بأن روسيا لديها خطة للأمن الغذائى تقوم على التعاون بين المصدرين والمستوردين للحبوب فى إفريقيا ودول الجنوب وعدد من الدول العربية منها مصر والسعودية، مؤكدة أن لدى روسيا العديد من سبل توفير الغذاء لشركائها ليس من خلال أكبر سلاسل التوريد فقط، بل ومن خلال تطوير التقنيات الزراعية.
وأضافت «جميع مصانعنا وصوامعنا هى عناصر فى نظام الأمن الغذائى، وبالطبع، عندما تزورون الشركات فى مدينتى سان بطرسبرج ونوفوروسيسك، ستفهمون ما أتحدث عنه، والمهم التعاون فيما بيننا لتحقيق الاستقرار الغذائى».
تعاون مع مصر
ومن جانبها تحدثت فيكتوريا جاموفا، منسقة اتجاه «تصدير المعدات المتخصصة» لجمعية «روسريستر»، عما أسمته النجاحات التى تحققت فى الصناعة الهندسية المتخصصة محليا بعد مغادرة الشركات الأجنبية السوق، وعن استبدال الواردات والطلب على المنتجات الروسية.
ثم تناولت التعاون القائم بين العديد من البلدان الأفريقية وفى مقدمتها مصر فى مجال صناعة وتوريد الجرارات الزراعية العملاقة مشيرة إلى لقاء جمعها فى شهر سبتمر الماضى مع وزير الزراعة السيد القصير حيث جرى مناقشة التعاون بين رجال الأعمال المصريين ونظرائهم الروس خاصة فى مجال صناعة الألبان والأسمدة الزراعية.
كما تحدث مسئولون روس آخرون خلال الجلسة الحوارية عن اقتراحات روسيا فى التعامل مع التغييرات المناخية وتاثيرها على المنتجات الزراعية.
جانب من الجلسة الحوارية في موسكو
وفى المساء انتقل الوفد الصحفى إلى مركز «سكولكوفو» للابتكار، وهو عبارة عن مبادرة تهدف إلى إنشاء بيئة مستدامة للابتكار وتعزيز ثقافة لريادة الأعمال من أجل دعم تنمية التكنولوجيات المتقدمة وتسويقها فى الاتحاد الروسى وخارجه، حيث قدم المشرفون على المركز شرحا للنظام البيئى فى سكولكوفو، والتعريف بالشركات الناشئة الموجودة فى «تكنوبارك»، فضلا عن التطورات الروسية الجارى العمل عليها فى الوقت الراهن لخدمة أغراض البحث والتطوير للمنتجات الزراعية.
الانطلاق إلى المصانع
اليوم الثالث من الرحلة كان المحطة الحقيقية فى الزيارة التى استهدفت بالأساس الوقوف على المشروعات الصناعية فى مجال الأمن الغذائى. فى الصباح الباكر حملنا حقائب السفر باتجاه محطة قطارات موسكوفسكى، ومن فوق مقاعد جلدية أنيقة ومريحة انطلقت رحلتنا فى موعدها المقرر بالدقيقة والثانية فى اتجاه مدينة بطرسبرج فى رحلة استغرقت 4 ساعات.
لدى و صولنا إلى ثانى أكبر المدن الروسية كان الثلج قد جمد مياه نهر نافا، وليس نيفا كما صحح لى النطق الأصدقاء الروس، الجليد. ونحن نمضى بالحافلة أشار محدثى الروسى، طالب الماجستير فى جامعة موسكو للعلاقات الدولية، يوجينى أليكسيفيتش إلى عدة مبانٍ تاريخية مطلة على النهر ومن بينها متحف الإرميتاج الذى يعد واحدا من أكبر وأهم المتاحف الفنية والثقافية فى روسيا العالم.
المبنى الذى كان يتلألأ بفعل انعكاس الثلوج البيضاء على حوائطه يقع فى وسط مدينة سان بطرسبورج، بدأ تأسيسه فى القرن الثامن عشر ويحتوى على مجموعات تربو على 3 ملايين من الأعمال الفنية والآثار العالمية.
استراحة قصيرة لم تستغرق أكثر من ساعة انتقلنا بعدها إلى مصنع توراس فينيكس «TAURASPHOENIX».
وهو تابع لشركة روسية لإنتاج معدات تعبئة وتغليف المواد الغذائية، والذى تستخدم ماكيناته عدة مصانع مصرية فى تعبئة منتجات الألبان والسكر والدقيق والمنتجات الغذائية الأخرى.
فى جولة بالمصنع الذى تأسس عام 1987 بطاقة إنتاجية إجمالية تزيد عن 1000 آلة سنويًا، قال مدير عام الشركة، أسخات موتاشيف، إن المصنع يشغل مساحة إجمالية قدرها 25 ألف متر مربع، وهو يتكون من مواقع مختلفة تستخدم فى عملية التصنيع مثل المستودع المفتوح للمواد الخام الذى يضم الفولاذ المقاوم للصدأ منخفض الكربون المستخدم فى عملية التصنيع، ومواقع القطع بالليزر ونفث الماء التى تستخدم لقطع مكونات عملية التصنيع بدقة عالية.
وأضاف، كما يضم المصنع موقع تصنيع المعادن التى تستخدم فى إنتاج 300 وحدة من معدات الطحن والخراطة، واللحام المستخدم فى صناعة الخزانات والقواديس والصناديق وخطوط الأنابيب.
وأشار موتاشيف إلى المعدات التى تنتظر التوريد بعد اكتمال تصنيعها، ومكان تصنيع لوحات المعدات الكهربائية، وموقع التجميع الميكانيكى حيث يتم تجميع الآلات يدويًا بنسبة 100%، وأخيرًا موقع اختبار المعدات حيث تخضع للعمل المستمر لمدة 72 ساعة.
فى ورش المصنع المتعددة سمح لنا بالتصوير، لكن عند انتقالنا إلى الطابق الثانى حيث قسم التصميم والأبحاث الذى يعمل به 70 مهندسا فى مجال التصنيع منعنا من التصوير وتم الاكتفاء بالمرور على المهندسين الذين يجلسون أمام شاشات إلكترونية تعرض تصاميم هندسية لا تزال تحت التطوير.
سألت مدير عام المصنع عن مدى إمكانية التعاون مع مصر لإنتاج تلك المعدات وليس تصديرها بعد التصنيع فقال «إننا منفتحون على كل مجالات التعاون، ليس مع مصر وحدها، بل مع جميع البلدان الأفريقية».
وحول ما إذا كان يسعى إلى أسواق جديدة تعوض الأسواق الأوروبية قال «لا نبحث استبدال التعامل مع الغرب بدول أخرى لكننا نسعى لتقديم منتج عالى الجودة، ونحن نصدر منتجاتنا إلى 65 دولة».
المحطة التالية كانت داخل مصنع جرارات بطرسبرج التابع لشركة JSC لإنتاج اللودارات والجرارات الزراعية من ماركة «كيروفيتس» والتى تأسست عام 1801 وبدأ صناعة الجرارات عام 1924، وينتج المصنع حاليا 3000 جرار بقدرات مختلفة تتراوح بين 240 حصانا و420 حصانا. والمصنع مقام على مساحة 200 ألف متر مربع.
وداخل مصنع جرارات بطرسبرج يتم إنتاج ما يقرب من 70% من مكونات الجرارات فى ورش المصنع مثل علب التروس والإطارات والكبائن ومكونات الصلب والأجزاء الكهربائية.
وطبقا لبيانات الشركة فإن جرار كيروفيتس بقوة 420 حصانا يباع ب 199 ألف دولار.
وخلال جولة قادنا فيها سكالوف ألكسندر أناتوليفيتش مدير إدارة التعليم التدريب فى المصنع أطلع الوفد الصحفى على صناعة الجرارات بدءًا من مراحل التصمييم مرورا بورش الحدادة والخراطة والتجميع اليدوى والآلى، وانتهاء بصالة عرض الجرارات المكتملة التصنيع.
وقال أناتوليفيتش، إن المصنع يستعد فى عام 2024 للاحتفال بمرور مائة عام على بدء صناعة وتصدير الجرارات التى ينتجها، مشيرا إلى أن التصنيع لا يقتصر على الجرارات، بل هناك عمليات تصنيع لعربات المطافئ والقطارات فضلا عن بناء السفن.
وعن حجم التعاون مع مصر أشار إلى أن مصر استوردت فى الفترة الأخيرة نحو 22 جرارا عملاقا من ماركة كيروفيتس بقوة 420 حصانا للاعتماد عليها فى مشروعات التنمية الزراعية الكبرى.
مدير التدريب بمصنع بطرسبرج للجرارات يشرح للصحفيين مراحل التصنيع بالورش