تحل الذكرى الحادية والسبعون لثورة الثالث والعشرين من يوليو المجيدة هذا العام، والتى مثلت تتويجا لنضال طويل للشعب المصرى من أجل نيل حريته، واستقلال قراره الوطنى. واستطاعت تلك الثورة، أن تؤسس الجمهورية الأولى للدولة المصرية، وتغير وجه الحياة، بشكل جذرى ليس فقط فى مصر، بل فى المنطقة بأسرها، حيث كانت لها إسهامات ملهمة فى تصفية الاستعمار، وترسيخ حق الشعوب فى تقرير مصيرها، وتغيرت معها الخريطة الدولية، وارتفعت من خلالها رايات الحرية والاستقلال فوق معظم الدول العربية والأفريقية. علاوة على ذلك، فقد امتد تأثير ثورة يوليو ليتجاوز حدود الإقليمين العربى والأفريقى، وليصل صداها إلى جميع أرجاء المعمورة لتمنح الإلهام والأمل للشعوب التى تكافح من أجل حريتها وتسهم فى تغيير موازين القوى فى العالم. ولا يمكن أبدا اختزال ثورة يوليو فى شخص الرئيسين محمد نجيب وجمال عبدالناصر، ولا فى مجلس قيادة الثورة، ولكنها كانت تجسيدا للروح الوطنية والفداء، ولكفاح شعب على مدى عقود طويلة ضد الظلم والفساد والمحسوبية والاحتلال الأجنبى الغاشم والذى جعل مصر إمارة إنجليزية مستباحة أرضها وثرواتها. وقد جاءت ثورة يوليو فى سياق تاريخى معين، وفى عصر دب فيه الصراع بين الاستعمار وحركات التحرر الوطنى من جهة، وبين القوى الغربية والمعسكر الاشتراكى من جهة أخرى. عصر أوجده نظام عالمى جديد قام من حطام الحرب العالمية الثانية، ليهيئ المسرح لحرب من نوع جديد هى «الحرب الباردة»، وعالم تصارعت فيه السياسات والأيديولوجيات، وراحت فيه الشعوب التى عاشت على الهامش تحاول أن تجد لنفسها مكانا مقبولا وتتمتع بكافة حقوقها وحرياتها وتقرر مصيرها بنفسها. نختلف أو نتفق مع ثورة يوليو، نرفضها كليا أو نؤيدها جزئيا، إلا أن الشىء المؤكد أن هذه الثورة وضعت وأرست مبادئ لا يمكن لأحد أن ينكرها إلا جاهل أو غافل. فثورة يوليو التى بدأت كحركة عسكرية ثم سرعان ما تحولت إلى ثورة شاملة تبناها وأيدها الشعب، لها بالقطع أخطاء وسلبيات عديدة، فقد فشلت فى إقامة حياة ديمقراطية سليمة، هذا بالإضافة إلى التضييق على الحريات، وغياب التعددية الحزبية، والتورط فى حرب اليمن، وأخيرا الهزيمة العسكرية المريرة فى يونيو 1967. إلا أن لها إيجابياتها أيضا التى تمثلت فى القضاء على الإقطاع، والقضاء على الاستعمار، وتشكيل جيش وطنى قوى، وإقامة عدالة اجتماعية، وتأسيس النظام الجمهورى، ومحاولة لم الشمل العربى وتأسيس وحدة عربية كاملة. كما أنها أدخلت مصر بسرعة إلى حافة الانتماء القومى، وأدخلت القضية الفلسطينية إلى الوعى القومى. كذلك لا نستطيع أن نتناسى أنها أتاحت التعليم للجميع بدون تمييز، وجعلت أبناء الفقراء ينافسون الأغنياء بالجامعات، وكذلك منحت لأبناء الطبقة المتوسطة فرصة فى كل شىء فلا تقف أمامهم أى عقبة طبقية. وقدمت لنا تجربة ثورة يوليو أيضا التنمية المستقلة كسبيل لبناء الدولة العصرية وتوسيع دعم قاعدة الاقتصاد الوطنى، وكانت الصناعة قاطرة التنمية وخاصة الصناعات الاستراتيجية. وحتى رحيل الرئيس جمال عبدالناصر فى عام 1970 كان حجم الدين المصرى لا يتجاوز أربعة مليارات جنيه مصري، مثلت معظمها استثمارات فى مشروعات صناعية منتجة. إن الاحتفال السنوى بذكرى ثورة يوليو يجب أن يكون بمثابة قوة دفع متجددة للعمل والسهر على تنفيذ رؤية استراتيجية شاملة وملحمة تنموية فريدة لبناء وطن قوى متقدم فى جميع المجالات، وتعزيز قيم العمل والعلم الحديث ومناهجه فى جميع أوجه الحياة، وتحقيق طموحات الشعب المصرى فى حاضر ومستقبل مشرق يظلله الأمن والاستقرار، وتزدهر فيه التنمية، من أجل الانطلاق إلى الجمهورية الجديدة القائمة على التنمية والبناء والتطوير وتغيير الواقع، والعدال والمساواة والمواطنة وحقوق الإنسان. جمهورية تؤسس نسقا فكريا واجتماعيا وإنسانيا شاملا، وبناء إنسان ومجتمع متطور تسوده قيم إنسانية رفيعة.