لقد نبع الذكاء الاصطناعى نتيجة جهود كبيرة وفى ميادين علمية متعددة. وعندما بدأت نتائج هذه الجهود فى الظهور، أصبح جليا أن تأثيراته تعدت الميدان العلمى لتمس جانبا كبيرا من مجالات الحياة اليومية. والتسارع الواضح الذى نشهده فى تصنيع تقنية جديدة وذكية بدأ يطرح موضوعا غاية فى الخطورة وهو موضوع الجانب الأخلاقى والمعنوى ومدى تأثير هذه التقنية فى مستقبل البشر. وتجاه هذا التطور الجديد انقسم المهتمون بالموضوع إلى قسمين؛ قسم يرى أن هذه التقنية الجديدة ستصل فى النهاية إلى تحطيم حياة البشر والسيطرة على العالم، وإلى مرحلة من التطور يصعب معها على الإنسان التحكم فيها. وقسم آخر لا يرى فى الأمر خطورة، بل بالعكس يتطلع إلى مستقبل به الكثير من الرفاهية لما ستوفره هذه التقنية من يسر فى كثير من مجالات الحياة. • • • كانت الآلات الذكية والروبوتات العبقرية موضوعا مسليا لأفلام الخيال العلمى، لم يكن لها هدف سوى تقديم أرباح كبيرة فى دور السينما من خلال إطلاق العنان للخيال البشرى. لكن اليوم وبمتابعة ما يجرى فى هذا الميدان بات تصنيع هذه الآلات غير بعيد، والمحاولات الأولى فى هذا الطريق كُللت بالنجاح، وقريبا قد يصبح الخيال العلمى واقعا علميا. فإذا ما تواصل هذا النجاح سيجابه العالم مخاطر كثيرة فى هذا القرن قد تؤدى لأن يصبح الإنسان البشرى عبدا يخدم الإنسان الآلى. فإذا ما نجح العلماء فى تطوير آلات ذكية جدا، سيكون هناك خياران لا ثالث لهما. أما الخيار الأول فهو أن نترك للآلة حرية اتخاذ القرار منذ البداية وبهذا نفقد السيطرة على مجريات الأمور. ولا أحد يدرى فى هذه الحالة إلى أين ستسير بنا الآلات، فهى التى تخطط ونحن ننفذ دون وعى أو تفكير. وبهذا الخيار يصبح الإنسان بلا إنسانية، وقد يرى البعض أن هذا الخيار غاية فى السذاجة فليس هناك إنسان بالغباء الكافى الذى يجعله يسلم أمره لآلة حتى وإن كانت غاية فى الذكاء. إن الأمر ليس بهذه البساطة، ففى المستقبل غير البعيد سيصبح العالم فى غاية التعقيد إلى درجة يصعب على الإنسان مجاراة الأمور ويستسهل على نفسه الاستعانة بالآلة والقبول بقراراتها، وشيئا فشيئا يكون لها القرار الأول والأخير ويزيد العالم تعقيدا. وفى ذلك الوقت يصبح الاستغناء عن الآلة ضربا من الانتحار. ولو التفتنا قليلا إلى الوراء قبل التلفاز، والسيارة، ومكيف الهواء، والهاتف، والثلاجة وغيرها، وقارنا تلك الأيام باليوم سنرى مدى تعلقنا بالآلة على الرغم من أن آلة اليوم لا تملك من الذكاء شيئا ولا تصنع القرار، فآلة المستقبل القريب أكثر إغراء وأكثر قوة. أما الخيار الثانى فهو ألا نسلم مقاليد الأمور للآلة، ويكون للإنسان السيطرة على عدد من الآلات الذكية التى تخصه مثل الآلات المنزلية والسيارة، والحاسوب وغيرها. فى هذه الحالة ستكون الآلات الأكبر والأقدر والأذكى عند عدد صغير من الناس وهم النخبة. وهنا ستكون هذه النخبة تملك موازين القوى وتتحكم فى مصير العامة بما تملكه من تقنية غاية فى التعقيد والذكاء، ويتحول الناس إلى خدم يخدمون أصحاب القوة وهم قلة. إذا، فى صورة الوصول للآلات الذكية التى سعى إليها العاملون فى ميدان الذكاء الاصطناعى سيكون أمام البشرية خياران أحلاهما أمر من المر. فالأمر هنا يتعلق بمستقبل البشرية ويجب أن يؤخذ مأخذ الجد، فإمكانية أن يتفوق الرجل الآلى على الإنسان أمر فى غاية الخطورة ولا يمكن تجاهله حتى وإن كان مستبعدا، وما من إنسان فى يومنا هذا قادر على الجزم بالاستحالة، وما دامت الإمكانية موجودة فهناك خطر محدق. سيكون من الصعب على الشخص العادى أن يشعر بالخطورة، والدليل على ذلك أنه رغم تسارع التطورات فى ميدان الذكاء الاصطناعى، إلا أن قليلين فقط هم من تحدثوا عن المخاطر التى تنتظرنا فى المستقبل، وهذا أمر طبيعى لسببين مهمين أولهما أن الإنسان العادى يتعامل مع هذه الأشياء من بعيد ويعتبر نفسه غير مسئول عن تفاصيلها وآثارها ومستقبلها ولا يشغل نفسه بذلك. والسبب الثانى هو أننا تعودنا على قبول الاكتشافات الجديدة بسهولة، فكثرة الاكتشافات التى شهدها القرن العشرون جعلت تقبلنا لها أمرا روتينيا لا يستدعى التفكير. لكن ما يجهله الكثير أن اكتشافات القرن الواحد والعشرين ليست من النوع الكلاسيكى، فالذكاء الاصطناعى والرجل الآلى والهندسة الوراثية تشكل خطرا أكبر من الاكتشافات التى سبقت. • • • كان القرن العشرون قرن أسلحة الدمار الشامل، وقد يكون القرن الواحد والعشرون قرن «معلوماتية الدمار الشامل» أو «تقنية الدمار الشامل». ولنا فى القرن الذى انقضى درسا حرى بنا ألا نتجاهله، عندما قاد الفيزيائى روبرت أوبنهايمر فريقا من العباقرة لاختراع القنبلة الذرية لم يتوقف أحد من هؤلاء ولا من غيرهم ليتساءل عن جدواها. فقد كان خوفهم من هتلر أقوى من نزعتهم الأخلاقية والأدبية، وبسرعة تم الاختراع. عند ذلك، شعر بعضهم بضرورة الوقوف عند هذا الحد، ولكن كان قد فات الأوان. فعدد من هؤلاء العلماء أغرته عبقرية الاختراع بالتمادى فى هذا الطريق حتى النهاية. وألقيت إحدى هذه القنابل على هيروشيما ولحقتها الأخرى فى ناجازاكى وأحدثت الدمار وهزت الفاجعة أرجاء العالم. ففى حين كان الكثير يشعر بالرعب، كان هناك من يشعر بحالة من الارتياح والفرح بنجاح الاختراع. فإذا كانت هذه الاختراعات فى القرن العشرين شرا على البشرية، فاختراعات القرن الواحد والعشرين أخطر بكثير. إن أسلحة الدمار الشامل كانت تحتاج إلى معلومات كبيرة وسرية، وإلى عناصر كيميائية نادرة ومجهودات على مستوى الدول، وهذا ما حد من خطورتها. لكن معلوماتية الدمار الشامل ستكون رخيصة متوفرة وفى متناول الجميع، وهذه الآلات الذكية التى نرتقبها ستكون آلات للدمار إذا انهمك العلماء فى العلم وتناسوا الأخلاق. • • • يرى كثير من الناس أن الأشخاص المتخوفين من المستقبل والمتشائمين مما قد تسببه التقنية الجديدة هم مفرطون فى التفاؤل بأن تصل هذه التقنية فى المستقبل القريب إلى درجة كبيرة من الذكاء يجعلنا نخاف على أنفسنا، فهذا الإفراط الزائد فى التفاؤل ولّد التشاؤم. فكثير من الناس يؤمن بأن القدرة الحاسوبية، والرجل الآلى والهندسة الوراثية، وغيرها من العلوم الحديثة مازالت لم تنضج بعد. فلماذا نتصرف وكأنها أصبحت حقيقة؟ لماذا نتهم هذه التقنية على أساس ما قد تسببه لنا فى مستقبل غير قريب؟ ولماذا نلتجئ إلى هذا النوع من الاستقراء التشاؤمى؟ قد يكون من الصعب جدا الوصول إلى آلات أذكى منا، وحتى وإن حدثت المعجزة ووصلنا بعد سنوات عديدة، سنكون يومها قد تعودنا على هذه الأنواع من المعجزات، فمن نعم الله على الإنسان أن أعطاه القدرة على التأقلم. كان الناس فى القرن التاسع عشر يعتقدون أن لحومهم ستنسلخ عن عظامهم لو ركبوا قطارا يسير بسرعة 30 كم فى الساعة، ونحن الآن نركب طائرات تسير بسرعة الصوت ولم يحدث شىء يهدد إنسانيتنا أو وجودنا. وكان الحالمون فى أوائل القرن العشرين يظنون أننا فى نهاية القرن سنمتلك طائراتنا الخاصة ونجوب الفضاء، وعبرت عن هذه الأحلام كتب الخيال العلمى من 1920 إلى 1950. وكان كبار العلماء، مثل أديسون وتسلا، يتنبئون بأن تكون الطاقة الذرية والكهربائية مجانا فى نهاية القرن العشرين فكان العكس. كثير من الاستقراءات والتنبؤات القديمة صحت ولكن علّمنا التاريخ أن التنبؤات المتطرفة دائما تكذب. ليس هناك شك فى أن تقنية المستقبل ستمثل تحديا كبيرا للبشرية، ولكن ليس هناك جديد فى القضية. فتقنية الماضى شكلت تحديا لمن قبلنا، وكما كانوا، سنكون قادرين على مواجهة التحدى. إن هذا الحاضر المضىء الذى نعيشه الآن كان مستقبلا مظلما لمن سبقونا، والمستقبل المظلم الذى يرسمه المتشائمون سيكون حاضرا مضيئا لمن سيتعايشون مع هذه التقنية الجديدة. إن مناقشة «استسلام» الإنسان للروبوت أو نسخ الآلات الذكية دون تحكمنا فيها سابقة لأوانها. فإذا ما اقتربنا من ذلك العصر الذى قد لا يكون قريبا، وإذا ما توفرت الحقائق، سيكون الإنسان كما كان دائما قادرا على تفادى الدمار الشامل. فلا خوف من مواصلة مسيرة العلم والتقنية، فالدمار الذى يسببه الجهل أكثر بكثير مما يسببه العلم، خاصة فى عالم فيه العلم معيار التفوق الأول والأخير.