للمرة الثالثة، يقوم المتطرف السويدى الدنماركى راسموس بالودان بحرق القرآن الكريم فى العاصمة السويدية ستوكهولهم، حيث قام بذلك الفعل المشين فى المرة الأولى خلال شهر رمضان فى أبريل 2022، والمرة الثانية فى يناير من العام الجارى. هى جريمة بكل المقاييس تؤجج مشاعر مليارى مسلم ومسلمة حول العالم خلال احتفالهم بعيد الأضحى المبارك، وتتنافى مع كل القيم والمبادئ الإنسانية، وسيكون لها عواقب وخيمة لا يُحمد عُقباها. البداية كانت مع سماح السلطات السويدية لهذا المتطرف بالتظاهر أمام السفارة التركية فى ستوكهولم، واختيار الزمان والمكان لهما دلالة. فالزمان هو العيد الأكبر للأمة الإسلامية، والمكان هو أمام إحدى سفارات الدول ذات الأغلبية المسلمة، وهى فى نفس الوقت عضو بارز فى حلف «الناتو»، والتى تسعى السويد للحصول على عضويته. ومن المعروف أن هناك خلافا بين تركياوالسويد على انضمام الأخيرة إلى الحلف، فتركيا وضعت شروطا أساسية مقابل موافقتها على انضمام السويد، وهو ما رفضته الأخيرة. وكما هو معروف، فإن السويد تسمح بحرق القرآن بعد أن ألغت قرار رفض التصريح بالمظاهرات التى تتضمن حرقه، باعتباره إحدى صور حرية الرأى والتعبير. تفجرت بعد هذا الفعل موجة من الغضب العارم اجتاحت جميع الأقطار الإسلامية، وتجددت دعوات مقاطعة المنتجات السويدية بعد تكرار الانتهاكات غير المقبولة تجاه القرآن الكريم والاستفزازات الدائمة لجموع المسلمين حول العالم تحت لافتة حرية الرأى والتعبير. • • • يرى بعض المسئولين الغربيين أن حرق القرآن الكريم يعتبر عملا قانونيا، ويأتى فى إطار حرية الرأى والتعبير المنصوص عليها فى الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، وهو ما يتنافى مع الواقع العملى. فقد نصت المادة (19) من الإعلان العالمى لحقوق الإنسان على أن «لكل شخص حق التمتع بحرية الرأى والتعبير، ويشمل هذا الحق حريته فى اعتناق الآراء دون مضايقة، وفى التماس الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين، بأية وسيلة ودونما اعتبار للحدود». نصت المادة (19) من العهد الدولى الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على الآتى: 1 لكل إنسان حق فى اعتناق آراء دون مضايقة. 2 لكل إنسان حق فى حرية التعبير، ويشمل هذا الحق حريته فى التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى آخرين دونما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو فى قالب فنى أو بأية وسيلة أخرى يختارها. 3 تستتبع ممارسة الحقوق المنصوص عليها فى الفقرة (2) من هذه المادة واجبات ومسئوليات خاصة. وعلى ذلك يجوز إخضاعها لبعض القيود ولكن شريطة أن تكون محددة بنص القانون وأن تكون ضرورية: (أ) لاحترام حقوق الآخرين أو سمعتهم، (ب) لحماية الأمن القومى أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة. إلى ذلك، عرّفت الأممالمتحدة خطاب الكراهية بأنه «أى نوع من الاتصال فى الكلام أو الكتابة أو السلوك، يهاجم أو يستخدم لغة تحقيرية أو تمييزية بالإشارة إلى شخص أو مجموعة على أساس دينهم أو عرقهم أو جنسيتهم أو عرقهم أو لونهم أو نسبهم أو جنسهم أو أى عامل هوية آخر». كما يحظر القانون الدولى لحقوق الإنسان خطاب الكراهية الذى يتضمن التحريض على التمييز أو العداء أو العنف، فنصت المادة 20 (2) من العهد الدولى الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على أن «يحظر القانون أى دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية التى تشكل تحريضا على التمييز أو العداء أو العنف». فالتعبير بخطاب موجه ضد طائفة معينة والذى لا يتضمن تحريضا على التمييز أو العداء أو العنف، مُصرّح به فى القانون الدولى لحقوق الإنسان وهو غير مُجّرم. أما حين يتضمن الخطاب تحريضا واضحا أو ضد طائفة معينة أو أنه يتسبب فى تأجيج العنف، فإن القانون الدولى لحقوق الإنسان يحظره ويدعو الدول إلى اتخاذ الإجراءات لمنعه. وبالتالى، فإن حرق القرآن الكريم هو عمل يتضمن التحريض على التمييز والعداء والكراهية، وبالطبع العنف بدليل أنه تسبب فى مرات عديدة بعنف متبادل وخلق بيئة معادية للمسلمين بصفتهم الجماعية كمسلمين، ويتضمن عنصرية دينية واضحة، وبالتالى هو عمل محظور فى القانون الدولى، ولا يمكن الادعاء بحرية الرأى والتعبير واعتباره عملا قانونيا. • • • الحقيقة، إن مثل هذه الأعمال المتطرفة وغير المسئولة قد تكون بوابة لخلق مناخ للفوضى وعدم الاستقرار، وتساهم فى تفجر أعمال عنف انتقامية تطال الكثير من دول العالم، وهو ما شاهدناه سابقا فى أكثر من مناسبة، بعد قيام متطرفين يمينيين بالتطاول والإساءة للأديان والتطاول على الرموز والمقدسات. فجريمة حرق القرآن الكريم، ليست الأولى وربما لن تكون الأخيرة، ولكنها بالتأكيد تعكس بشكل واضح فكرا عنصريا متطرفا بدأ يغزو كثيرا من المجتمعات، ممثلا فى جرائم الإسلاموفوبيا ومعاداة الأجانب والمسلمين والمسلمات، وهو ما يؤكد سرعة العمل على إدانته ووقفه بالطرق القانونية وتجريم كل الأفعال والدعوات المحرضة على التطرف والكراهية الدينية أو العنصرية. فالتحضر والديمقراطية والحرية ليست فى ممارسة العنصرية والتطرف ضد الآخر، وليست فى الاستخفاف بالقيم والرموز والمقدسات، بل هى ثقافة تبنى على أسس راسخة من ثقافة السلام والتسامح والاحترام المتبادل والحوار والتعايش بين الأمم والأديان والحضارات. ولا يمكن لأى مجتمع أو فئة أو دولة تحترم نفسها وترفع شعارات حرية الرأى والتعبير أن تكون صادقة، دون أن تكون قادرة على احترام الاختلاف وتفهم قيم وعادات ومقدسات الآخر، لأن الحرية بمفهومها العام ليست مطلقة، بل لها قواعد وضوابط يجب أن يتم التقييد بها واحترام حدودها. احترام خصوصية الآخر ومعتقداته ورموزه لا تقل أهمية عن حرية التعبير ذاتها، لأننا جميعا كبشر نحمل فى دواخلنا قيما وعادات وأديانا مختلفة، وبالتالى فلا يمكننا العيش والتعايش وبناء المجتمعات الفضلى دون أن نتفهم المختلف ونحترمه. سيظل القرآن الكريم فى مقامه العالى كتابا هاديا للبشرية جمعاء، ولن تنال من قدسيته أحقاد متطرفين وصناع الكراهية والعنف، وبلاشك فإن مثل هذا الفعل لا يدل إلا على جهل وحقد وكراهية وعنصرية مقيتة تعبر عن مدى السقوط المدوى للحريات المنافقة والشعارات البراقة التى لا تقم وزنا للحرية الحقيقية. باحث فى مجال حقوق الإنسان