وفى غُرفة الأرشيف المظلمة التى لا ترى الشمس إلا نادرا وجدتنى أصْعَد السُلَّم الخشبى الصغير لأصل إلى ذلك المَلَفّ المتآكل الأطراف والذى تكسوه الأتربة، وقد دفعَتنى الرغبة الجامحة فى التعرُّف على المزيد من حدوتة (سِتُّهُم). فوجدت أن التدرُّج الاجتماعى الذى يأخذ شكلا هَرَميا تقبع أغلبية الفقراء فى قاعه. أما الأقلية الأرستقراطية فتسكُن قِمَّته، وبينهما الطبقة الوُسطى. ورأيت كيف انعكس هذا التدرج الطبقى على أسمائنا التى أكدت أوضاعنا الطبقية والثقافية والعائلية فى ريف مصر وحَضَرها. • • • وقد حَرَصت الطبقة الأرستقراطية على استلهام أسماء العظماء من صُنَّاع التاريخ القومى والوطنى. وهذا بالنسبة للمولود الذَكَر. أما البنات فتحظى بأسماء الأميرات والملِكات وسيدات القصور. فانتشرت أسماء (إبراهيم) باشا أبوالعسكرية المصرية فى منتصف القرن التاسع عشر والخديوى (سعيد) والخديوى (إسماعيل) ومَن تلاهم من الحُكام، مثل الخديوى (عباس) حِلمى والملك (فؤاد) و(فاروق) ولده. وانتشرت أسماء (عين الحياة) و(ضىّ الفُلّ) و(صافيناز) و(إنجى) و(نازلى) و(فريدة) و(ناريمان) و(فوزية) و(فريال) و(فتحية). وكلها أسماء تسمَى بها مَن استقبلتهم غُرَف الولادة بالقصور من الرجال والنساء. • • • لكن الأمر لم يكن سريعا وسهلا هكذا، وإنما صار بطيئا، ينتقل عَبْر المترددين على القُصور والمتعاملين مع نشاطاتها المتعددة. فلم يكن من السهل أن يتقبَّل الملوك والأمراء أن يستعير خَدَمهم من العامة أسماء الأمراء والأميرات. فمن الضرورى أن يبقى للاسم الراقى مكانته السامية ونُدْرَته التى لا ينافسه فيها أحد ببساطة. وكان السؤال عند تسمية واحد من العامة باسم عظيم من العظماء، أن يوجِّه له أولو الأمر السؤال، وهم يوبِّخونه على تجاوزه حدوده «الدونية»: «إنت مش قد الاسم ده. فألزم حدَّك ولا تنس وضعك». فكان الاسم الراقى يتطلَّب تصريحا طَبَقيا. لكن الطبقة الصاعدة والتى استمتعت بالتعليم والثقافة الرفيعة وقد تذوَّقَت الشِعْر وسافَر أبناؤها إلى باريس مدينة النور آنذاك، وشَعَر العامة بالفَخْر وهم يرددون أسماء (رفاعة الطهطاوى) و(محمود سامى البارودى) و(مصطفى كامل) و(حافظ إبراهيم) و(أحمد شوقى) شاعر القصر و(سعد زغلول) الزعيم الوطنى و(عبدالله النديم) و(محمود مختار)، فشاعت الأسماء المُركَّبة من اسمين لإضفاء القيمة والمكانة العُليا ليحظى صاحب الاسم بالصِفتين الراقيتين المحبوبتين. • • • ارتبطت بعض الأسماء بشخصيات شهيرة كَتَب عنها شُعراء العرب والروائيون مثل «ليلى» بطلة مسرحية «مجنون ليلى» للشاعر أحمد شوقى، و(هِند) و(بُثَيْنة) فى الشِعر الجاهلى. وعندما اتخذ (شوقى) اسم (هُدى) عنوانا لمسرحيّته «السِتّ هدى» وكان اسم زعيمة الحركة النسائية (هدى هانم شعراوى) ابنة الباشا وزوجة الباشا، بدأَت الطبقة الوُسطى تسمى بناتها تلك الأسماء، بالإضافة إلى استعارة الأسماء التُركية مثل (عِفَّت) و(أُلْفَت) و(عِصْمَت) و(حِكْمت) فى النساء و(شَوْكَت) و(مِدحَت) و(صَفوَت) فى الرجال. • • • هكذا نكتشف أننا عندما نتَّجِه لإطلاق اسم على مولود جديد، فإننا نجد أنفسنا فى حالة استدعاء لتاريخ عائلى ووطنى ودينى وثقافى. وفى الوقت نفسه فإن الذى يحظى بسُلطة إطلاق الاسم على المولود هو صاحب السُلطة العائلية الذى يميل بطبيعة الحال إلى الحفاظ على الامتداد العائلى فيكرِّر أسماء الأجداد من الرجال. كما ينتشر توريث أسماء الجدّات والعمّات للبنات الجُدد. لكن الملاحظ والهام هنا أن الأسماء تهبِط اجتماعيا من أعلى طبقات المجتمع إلى الطبقات الأدنى، مع حركة الزمن. فنكتشف أن الاسم الذى كان محرَّما استخدامه على الفئة الأدنى، صار مُباحا فى أدنى الطبقات. وصارت الأم الريفية تصرخ منادية ابنتها «البت ناظلة» بعد أن تم تحريف الاسم التركى للملكة السابقة (نازلى) ليصبح قابلا للاستخدام فى حَوارى القرية، وبعد أن كان الاسم دليلا على المكانة الاجتماعية بوضوح عندما كانت السيدة تنادى الخادمة: (عطية) أو (صابرة) لتساعد ابنتها (جيهان) فإن حركة الزمن مَنَحَت الجميع حق استخدام تلك الأسماء التى كانت محرَّمة على البسطاء والفقراء. • • • لا ننسى هنا أن نذكُر كيف تحرِص العائلات دائما وفى كل عصر على التبرُّك بأسماء الأنبياء وأولياء الله الصالحين. فينتشر من خير الأسماء ما حُمِّد وعُبِّد كأسماء (محمد) و(عيسى) و(موسى) و(إبراهيم) و(يونس) و(صالِح) و(زكريا) و(أيوب) و(عبدالله) و(عبدالنبى) و(عبدالجبار) و(عبدالغفار) و(عبدالرحيم) و(عبدالرحمن)؟ أما فى النساء، فينتشر اسم (فاطمة) و(نبوية) و(صِدِّيقة) و(مريم) و(عَليَّة) و(زينب). وبين المسيحيات ينتشر اسم (مارى) و(مريم) و(تريزا) و(إستر). • • • لم يكن الاتجاه نحو تحديد الدين الذى ينتمى إليه المولود فى اسمه بوضوح. فكانت الأسماء المشترَكة أكثر انتشارا فى المناطق الحضرية، وبخاصة بعد ظهور السينما. فصار الإعجاب ببطلات الروايات وأبطالها سببا فى انتشار أسماء نجوم مثل (كمال الشناوى) و(شكرى سرحان) و(نجيب الريحانى) و(رشدى أباظة) و(عماد حمدى) و(فريد الأطرش) و(عبدالوهاب) و(عبدالحليم) ومن الأسماء النسائية (أم كلثوم) و(شادية) و(ماجدة) و(فاتن) و(لُبْنى) و(مديحة) و(صباح). وصار الأهل فى سوريا ولبنان والعراق والجزائر وتونس...إلخ يحرصون على تسمية البنات والأولاد بأسماء أبطال وبطلات روايات السينما المصرية. فصارت أسماء (نوال) و(آمال) و(مُنى) و(وحيد) و(أحمد) هى الأسماء السائدة فى سوريا ولبنان والعراق والجزائر وتونس. • • • هنا، يجب أن نتذكَّر أهمية الدور الذى لعبته مصر كفاعل ثقافى وحضارى يستلهمه الإخوة العرب. وإذا قُمنا بحَصْر المواليد فى العالم العربى ودول عدم الانحياز والتعايش السِلمى بآسيا وإفريقيا فى ستينيات القرن الماضى، فسيدهشنا عدد الملايين من المواليد الذين تمت تسميتهم ب(جَمال) وهو الاسم الأول للزعيم (عبدالناصر). ومنهم أبناء زعماء إفريقيا وحُكّامها على سبيل المثال (جمال نكروما) ابن الزعيم الإفريقى الشهير والذى كان قد تزوج من مصرية وسمَّى أول أبنائه باسم الزعيم الخالد. أما اسم (ناصر) و(عبدالناصر)، فلم يحظ أى اسم فى تلك الفترة بذلك الانتشار الذى بَلَغ أكثر من عشرة ملايين ما بين ستينيات وسبعينيات القرن. • • • قبل أن أُنهى حديث هذه الحلقة، سيكون علينا أن نوضِّح أن السطوة الأيديولوجية للجماعات الإرهابية كانت تتبدى بوضوح فى نوع الأسماء التى حَرَص زُعماء تلك الحركات على استدعائها من الماضى التليد لعصور الإسلام الأولى، فصاروا يستبدلون أسماءهم الحقيقية العصرية بأسماء الصحابة وقادة الفتح الإسلامى فى محاولة مقصودة لإحياء الذاكرة الدينية لدى مسلمى الحاضر ودفعهم لدعم القادة الجُدُد باسم (أبوبكر البغدادى) و(أيمن الظواهرى) و(أبوحذيفة).. إلخ، لكى يحظى هؤلاء بالقداسة التى تمتَّع بها صحابة الرسول عليه الصلاة والسلام والتابعون من رجاله. • • • يبدو أننى سأتوقَّف بُرهة لالتقاط الأنفاس فالأمر صار يتطلَّب فَتْح المزيد من الملفات التى لا تكُفّ عن اجتذابى للمزيد من البحث وإلى اللقاء فى المقال القادم.