بعيدا عن كونها نبتا استعماريا، يمكن النظر إلى قيام إسرائيل باعتباره مقدمة وحافزا للقضاء على الاستعمار نهائيا في الشرق الأوسط، بما في ذلك أجزاء كبيرة من العالم العربي، في أعقاب انهيار الإمبراطورية العثمانية. ومن غير المعروف على نطاق واسع كيف استفاد العالم العربي من وعد بلفور وكيف ساعد العرب في إنجاز أهدافهم الوطنية والاستقلال عن القوتين الاستعماريتين، إنجلترا وفرنسا. وبرغم التوازي الضروري بين عمليتي التخلص من النفوذ الاستعماري ونظام الحماية خلال النصف الأول من القرن العشرين، يوجه الاتهام إلى واحدة فقط من الحركات القومية في ذلك الوقت ودولة ناتجة عن ذلك، هي إسرائيل تحديدا، لكونها "استعمارية"، مع إطلاق تعبير "الاستعمار الاستيطاني" على المشروع الصهيوني. لكن هذا التعبير يمكن أن يكون صحيحا فقط لو أن "المستوطنين" ليست لهم جذور أصيلة وحقوق في المنطقة. وهو بهذا يعد مجرد مثال على التلاعب السيكولوجي لتحقيق أغراض سياسية. وتنفي فكرة "المستوطن" أية صلة تاريخية أو توراتية لليهود بالمنطقة. من هنا تأتي أهمية إنكار حقوق اليهود وتاريخهم ومطالبتهم بالمنطقة. وحتى لا يكون هناك أي لبس بشأن ما يعنيه "المستوطن"، فإن من يطلقون تعبير "الاستعمار الاستيطاني" على إسرائيل إنما يعنون بوضوح مجمل المشروع الاستيطاني، بما في ذلك الحدود الأصلية لدولة إسرائيل عام 1948. وهكذا، نرى أن تهمة "إسرائيل الاستعمارية" متأصلة في الإنكار الأيديولوجي لوجود أي صلة لليهود بأرض إسرائيل القديمة. وعادة ما يكون للعوامل السيكولوجية دور في تطور الأفكار السياسية، من الأمثلة على ذلك، إطلاق أوصاف على الاحتلال مثل "غير شرعي" أو التأكيد على "حق" المقاومة أو "حق" العودة، وهذه الأوصاف باستخدامها المرة تلو الأخرى، يمكن أن تغير المفاهيم. وهكذا، تصبح اللغة أداة سيكولوجية مهمة، سواء لوصف الوقائع بصورة صحيحة واستدامة معتقدات قائمة على سرديات لا تعكس التاريخ بصورة دقيقة. وقد أصبحت تهمة الاستعمار تيمه أساسية في نقد إسرائيل في المنتديات الأكاديمية وجزءا من لغة الخطاب. إن وعد بلفور لم يحفز الاستقلال اليهودي وحده، بل حفز كذلك العالم العربي لتحقيق أهدافه القومية. والعالم العربي مستمر في إنكاره لهذا التاريخ، سواء على مستوى السياسة الرسمية أو الإعلام الجماهيري. وينعكس هذا التفكير على ميثاقي الحركتين الفلسطينيتين الرائدتين. فالميثاق الوطني الفلسطيني لعام 1968 يعلن أن وعد بلفور باطل ويتضمن ميثاق حماس عبارات تعبر عن الهيمنة الإسلامية على فلسطين، إلى جانب عدد من الإشارات إلى اغتصاب اليهود لفلسطين وتهديدهم للإسلام. ابتداءً من فترة الحرب العالمية الأولى، دخل الشرق الأوسط ككل في عملية للتخلص من الاستعمار، وظهرت الحركات الوطنية. وقام عدد من الدول المستقلة. وبقيام إسرائيل، أعيد بناء الدولة اليهودية، بينما بدأ السكان البدو من العرب الذين قدموا مع غزو القرن السابع، يقتطعون مناطق تخضع لنفوذهم وسيادتهم. وكان اليهود، بغض النظر عن كونهم مستعمرين، المستفيدين من الحركة الوطنية التي كانت تهدف إلى استعادة السيادة اليهودية ونجحت في الوقت ذاته، إلى جانب الحركات الوطنية العربية، في إنهاء السيطرة الاستعمارية بقوات ليس لها جذور تاريخية أصيلة في المنطقة، ومنح اليهود حقهم في المطالبة بفلسطين. هكذا نرى أن تهمة "إسرائيل الاستعمارية" متجذرة في الإنكار الأيديولوجي والإدراكي لوجود أي صلة لليهود بفلسطين وأرض إسرائيل القديمة. وقد يكون هذا عائدا إلى الاعتقاد بأن الصلة ضعفت بمرور الزمن، أو الإنكار السطحي للجذور اليهودية في المنطقة، كما هو الحال في الأوساط العربية وبعض المراجعين من الإسرائيليين. من هنا، فإن محاولات تغيير الاتجاهات لن يكتب لها النجاح إلا إذا استهدفت هذه المحاولات غير المنحازين إلى أيديولوجيات سياسية بعينها وتوفرت المعلومات الدقيقة، وغير المغرضة، والمستندة إلى بيانات متماسكة.