صدفة غريبة جمعت بين وصول المؤلف الموسيقى اللبنانى زياد الرحبانى لأول مرة لمصر وبين الذكرى ال118لميلاد الموسيقار سيد درويش التى تحل علينا غدا، وهو صاحب النهضة الموسيقية الأولى فى الوطن العربى، ومحرر موسيقانا من الاحتلال التركى، الذى ظل مسيطرا علينا موسيقيا لسنوات طويلة قبلة، إلى جانب غناء المشايخ. سبب اهتمامنا بهذه الصدفة أن الرحبانى دون أن يدرى وضع يده على جرح عميق نعانى منه فى مصر، وهو تجاهل الرموز الذين سطروا تاريخ الموسيقى العربية، وصنعوا منها حضارة لا تقل بأى حال من الأحوال عن تلك التى تركها أجدادنا الفراعنة. الرحبانى خلال وجوده تحدث عن فضل درويش ليس على الموسيقى العربية والمصرية فقط بل على الرحبانية إحدى المدارس المهمة فى تاريخ الغناء العربى. وذكر أنه خلال تسجيله لحن أغنية «اهو ده اللى صار» فى ألمانيا دخل عليه أحد الموسيقيين الألمان، وسأله عن ملحن هذا العمل، فقال له إنه مؤلف موسيقى مصرى، فأندهش الألمانى، وعاد يسأل: هل هو معاصر؟، فرد الرحبانى لا، فاندهش أكثر لأنه علم أن درويش وضع هذه الموسيقى قبل مائة عام. هذا هو سيد درويش الذى تجاوز بموسيقاه كل العصور، والحدود، والأزمان. دهشة الألمانى ربما تفرح وتبهج البعض منا، لكن هى فى حقيقة الأمر يجب أن تحزننا لأننا عجزنا أن نقدم موسيقى هذا الرجل للعالم، واكتفينا بترديد أعماله من خلال فرق الموسيقى العربية على استحياء. فى الوقت الذى استقبلنا فيه أعمالا موسيقية من كل أنحاء العالم «لفيردى، وبتهوفن، وموتسارت، وباخ، وشوبان»، ونحن لسنا ضد وجود موسيقاهم لكننا عجزنا أن نثبت للعالم أننا أيضا نمتلك موسيقيين على نفس المستوى، وربما يكون درويش تجاوزهم بتلك الخصوصية التى صبغ بها الموسيقى المصرية. العالم الخارجى لا يعلم عنا سوى إننا بلد الأهرامات، وأبوالهول. وإذا كان العالم الخارجى يجهل من هو درويش، فالأمر داخليا ليس أفضل حالا. لأنة لنفس الأسباب عجزنا عن تقديم فنه للأجيال الجديدة، وربما لولا ظهور حفيدة إيمان البحر فى منتصف ثمانينيات القرن الماضى وقدم بعض أعمال جده لاعتقدنا أن الأغانى التى أدتها فيروز له من أعمال الرحبانية مثل «زرونى كل سنة مرة»، و«اهو ده اللى صار»، و«أنا هويت»، و«الحلوة دى قامت تعجن فى الفجرية». على اعتبار أنهم اهتموا بفنه ليس على مستوى الأغنية فقط بل على مستوى المسرح الغنائى. والمتابع للرحبانية سوف يكتشف أنهم استفادوا منه كثيرا على المستوى الموسيقى والفكرى. فهو أول من راهن على ضرورة وجود أوبرا مصرية، وعربية لإنعاش المسرح الغنائى. وهو أول من حرر الغناء من عباءة المشايخ، وأغانى الهنك، والليالى، وأمان يا لاللى، وهى أشكال شديدة التقليدية تأثر بها نجوم الغناء، والتلحين فى ذلك الوقت من الأتراك، وهو أول من خرج بالكلمة من إطارها الضيق الذى كان يعتمد على كلمات تدور فى فلك الهجر والحب والأنين إلى غناء يتناول الطبقات الكادحة مثل الشيالين، وعمال الترحيلة، والفلاحين، وأيضا الغناء العاطفى لكن بمفهوم مختلف. إذن هذا الرجل الذى توفى عن عمر لم يتجاوز ال31 عاما ترك خلفه موروثا يمثل النقلة الحقيقية الأولى فى تاريخ الغناء العربى، وهو الذى مهد لمن بعده الطريق للاستمرار وفق منهج مختلف. الشهر الماضى احتفلت فرنسا بمرور 200 سنة على ميلاد شوبان، ودعت نجوم من أنحاء العلم للاحتفال به، وتعاقدت مع شركات لتسجيل هذه الاحتفالات، وطرحها فى الأسواق لإعادة نشر فنه. ونحن سوف نحتفل غدا بسيد درويش على طريقتنا، وهى مزيد من الجهل، والتجاهل، ونكران الجميل. فالتليفزيون المصرى دائما فى غيبوبة، ووزارة الثقافة ممثلة فى الأوبرا مهمومة بالفنون الغربية، لذلك نحن أصبحنا فى حاجة لمئات مثل زياد الرحبانى لكى يذكرونا بروادنا. «واهو ده اللى صار.. وادى اللى كان». يا عم سيد. الغناء الآن هو تقليد أعمى للموسيقى الغربية، والتركية، واللاتينية. هذا هو حالنا الآن.