حيرة كبيرة تنتابك عند محاورة الدكتور أحمد نوار، لأن شخصيته ذات زوايا وجوانب عديدة، فلا تعرف من أين تبدأ النظر إليه، وعن أى من مجالاته تتحدث أولا.. هل نتكلم عن قناص حرب الاستنزاف، وعبور أكتوبر؟. أم نترجل معه أولا ليحكى لنا عن البلاد الثمانى، التى زارها سيرا على الأقدام مع زملائه هواة الترحال، هل نحاوره كفنان تشكيلى معروف؟. أم نطالبه بالحكى عن المؤسسات الكثيرة، التى تولى قيادتها أثناء عمله بوزارة الثقافة؟. المشكلة أن هذه الجوانب تمت تناولها مرات كثيرة، حيث إن نوار من الشخصيات المثيرة لوسائل الإعلام، فكان الرهان الوحيد هو محاولة اكتشاف التفاصيل فى هذه الحياة الصاخبة. كنت محظوظا، وتآمرت الأجواء الطيبة لجعل هذا الحوار أقرب إلى دردشة الأصدقاء، حالة من الألفة ساهم فيها ود الرجل، ورحابة صدره. فى الطريق إلى مرسمه، وبعفوية، قادتنا «الدردشة» إلى حرب أكتوبر، والمعالجات السينمائية البائسة التى تناولتها، وشرح لى نوار كيف كانت له محاولات عديدة فى التنسيق مع الجهات المختلفة، لعمل فيلم سينمائى راقى عن هذا الانتصار العظيم بتكلفة عالية، يقول: «المسألة ليست سهلة، ومن حق الشباب أن يعرفوا حجم الإنجاز الذى تم فى هذا اليوم، لأن بناء الجسور العابرة للقناة، وعبور الجيش لها على طول خطها كان أشبه بالمعجزة». ويبدو أن الحديث عن حرب أكتوبر يثير رغبة نوار فى الحكى، فرجع بالذاكرة لسنوات، وتذكر كيف جاء التحاقه بسلاح القناصة بالجيش المصرى، قال «كنت رسمت لوحة تعبر عن أن الجندى المصرى لم يهزم فى نكسة 1967 لأنه لم تكن هناك مواجهة، هذه اللوحة فازت بالجائزة الأولى بإحدى المهرجانات الفنية فى الخارج، ذهبت إلى إدارة التجنيد كى أستخرج تصريحا للسفر وتسلم الجائزة، ففوجئت بأن التصاريح ألغيت منذ أيام، وأننى مطلوب للتجنيد، ولم يمهلونى فرصة الرجوع وإخبار أهلى، ودخلت الجيش، ولوحظ أننى أصيب الأهداف بدقة، فألحقونى بسلاح القناصة»، ويكمل نوار «الطريف أننى استفدت من خبرتى بالفن التشكيلى فى عمليات قتل عساكر العدو على الضفة الأخرى، حيث كانوا يختبئون وراء قطع من الخيش يفردوها على طول خط بارليف، فكانت تظهر خيالاتهم، وكنت أستطيع تحديد المسافة التى تفصل الشخص عن الستار الذى يختبئ خلفه، بقياس حجم ظله وزاوية ضوء الشمس». سألته: تتناول قضايا الوطن والحرب فى العديد من أعمالك، وخصصت معرضك الأخير عن حرب الاستنزاف، ألا تتفق مع البعض الذى يدعوا إلى تخفيف الفن من أعبائه، ومن القضايا الكبرى، والمعالجات المباشرة؟ أختلف بشدة مع هذا المنهج، وأرى أن الأعمال الفنية لابد وأن تحمل عدة قيم، وأن يكون لها أهداف تحاول تحقيقها. أريحيتك تيسر لى الدخول إلى الموضوع الشائك الذى أود السؤال عنه منذ البداية، وهو خلافك مع الدكتور محسن شعلان رئيس قطاع الفنون التشكيلية الحالى، والمشكلات التى تناولتها الصحف؟ رغم أننى لست ضد الحداثة، ولكننى كنت أبديت اعتراضى الشخصى على فكرة انتشار فن «الفيديو آرت» فى معارض الفن التشكيلى العالمية، والذى امتد للمصريين، وأخذت بينالى الإسكندرية، الذى ينظمه قطاع الفنون التشكيلية كمثال، وليس معنى هذا أننى ضد هذا الفن فى حد ذاته، ولكننى ضد تسمية بالتشكيلى، لأنه أقرب إلى الأفلام، فهناك ممثون وحركة كاميرا، وحوار، وقلت فى تصريحات صحفية بأن انهيار بينالى الإسكندرية يرجع إلى هذا السبب، وهذا رأى شخصى، حيث إن غياب التمثال واللوحة يعد غيابا لمفهوم الفن التشكيلى، ولكننى فوجئت بأن رد محسن شعلان على فى الصحف جاء متجاوزا لحدود الرد المنطقى فى هذا الخلاف الذى أنظر إليه بوصفه خلافا فكريا وليس أكثر. والذى يثير دهشتى أن محسن شعلان عندما يقابلنى، يتعامل معى بحفاوة بالغة تليق بالصداقة، التى امتدت بيننا لعشرين عاما، ولذلك أرى أن التصريحات التى يشنها شعلان ضدى ليست نابعة من داخله، أنا متأكد أن هناك أيادٍ خفية تحاول إفساد هذه العلاقة، بل هم يتعمدون هذا، والدليل على ذلك أن آخر لقاء لنا، كان أثناء افتتاح معرضى بقاعة أفق واحد، وحضره مرحبا بى فى مكتبه، ولذلك أشعر حاليا أننى عندما أخاطب محسن شعلان فإنى أخاطب شخصين واحد أعرفه والآخر لا أعرفه. فى أحد الأيام كنا سويا فى مكتبى قبل تركى لقطاع الفنون التشكيلية، وبعد انتهاء العمل، ذهبت للبيت، وقبل أن أجلس إلى العشاء، وجدت الباب يدق، فتحت فوجدت محسن يقف أمامى، اندهشت، فقال: لقيت قلبى رايحلك، فقلت أجيب كيلو كباب وأجيلك نتعشى مع بعض». ولكن هل كانت قضية «الفيديو آرت» هى نقطة الخلاف الوحيدة بينكما أم أنه كانت هناك خلافات أخرى؟ عندما انتقلت من رئاسة قطاع الفنون التشكيلية إلى الهيئة العامة لقصور الثقافة، وتولى محسن شعلا قطاع الفنون التشكيلية، عرضت عليه أن يكون هناك تعاون بين الهيئتين فى مجال الفنون التشكيلية، واقترحت أن تصدر الهيئة مجلة خاصة بالفن التشكيلى، وهو أمر معمول به على سبيل التعاون بين مؤسسات وزارة الثقافة، وأرسلت له خطابا رسميا بذلك، وبعد أن وافق على المبدأ، تجاهل الموضوع، ولما سألته، أبدى رفضه لأسباب غير منطقية، حيث كان يرى أن هذا تداخل فى الاختصاصات، وهو أمر أدهشنى، لأن قصور الثقافة منتشرة فى المحافظات المصرية، ومن المفترض أن تستفيد بها كل الهيئات الأخرى، وهذا ما يحدث بالفعل، فعندما صدرت مجلة مسرحنا عن قصور الثقافة مثلا، لم يضايق هذا الأمر الدكتور أشرف زكى، الذى كان أيامها مشرفا على البيت الفنى للمسرح، بل إنه اتصل بى وأشاد بالتجربة، وهذا الموقف يدعم فكرتى عن أن هناك من يتحدث إلى شعلان ويدعمه بأفكار خاطئة. يتردد أن هناك بعض الخلافات أيضا بينك وبين الدكتور أحمد مجاهد رئيس هيئة قصور الثقافة الحالى، فما قصة هذه الخلافات؟ الحقيقة أن مجاهد أيضا صديقى، وهو شخص طيب جدا، ولكننى لا أعرف لماذا صرح أكثر من مرة بتصريحات تحمل هجوما على التوجهات التى كنت أنتهجها أيام رئاستى للهيئة، رغم أن مجاهد نفسه كان يعمل معنا ولم يكن يبدى اعتراضه على شىء، كما أنه أوقف المشروعات التى كنت قد بدأتها، ولا أعرف لماذا. تنقلت بين قيادة عدة مؤسسات ثقافية، فما مدى التأثير السلبى لهذه الوظائف على عملك كفنان تشكيلى؟ بالطبع كان هناك تأثير سلبى لأن العمل العام والوظيفة كانت تأخذ منى معظم وقتى فى حين كانت النسبة الباقية للفن التشكيلى وللبيت، ولكنى لم أشعر بهذا على الإطلاق، لأن جميع القطاعات التى توليت إدارتها كانت ذات شأن فنى مهم، والإنجازات التى حققتها من خلال هذا العمل أهم عندى من إنتاج أى عدد من اللوحات، فقد أسست كلية الفنون الجميلة جامعة المنيا، ومتحف النوبة، ومجموعة كبيرة من المتاحف والمكتبات، ورغم هذا فلم يكن إنتاجى الفنى ضئيلا، فعبر 27 سنة أقمت نحو 15 معرضا خاصا، وهذا يرضينى بشكل كبير. قلت فى حوار سابق أن الحركة التشكيلية فى مصر لا تقوم على معايير فنية حقيقية، فماذا كنت تقصد؟ لم أقل هذا بالضبط، ولكننى قلت إن هناك ارتباكا شديدا فى الحركة النقدية لهذا المجال، فرغم وجود كتيبة كبيرة من الفنانين التشكيليين، فإن هناك غيابا كاملا للنقاد، ولا توجد مؤسسة حقيقية الآن تعمل على إعداد أجيال جديدة من النقاد باستثناء معهد النقد الفنى، وحتى هذا فلا يعمل أغلب خريجيه بتخصصاتهم، كما أن غياب الوعى الثقافى عند الفئات التى تستطيع اقتناء اللوحات، سواء على مستوى المؤسسات أو الأفراد، إضافة لمشكلة كبيرة، وهى عدم تخصيص مساحات ثابتة للكتابة عن الفن التشكيلى فى الصحف والمجلات المصرية. باعتبارك كنت رئيسا للهيئة العامة لقصور الثقافة، وهى من المؤسسات المعنية بالنشر، ماذا عن مشكلات النشر الحكومى المتمثلة فى الرقابة على حرية الفكر والإبداع؟ أؤكد لك أنه فى فترة رئاستى للهيئة لم يتم مصادرة أى كتاب بالفعل لم تصادر أى كتب، ولكن توضع معايير حازمة للنشر أليس كذلك؟ لم يحدث ذلك أثناء رئاستى للهيئة.