بالأمس شاهدتهم. فى شرفة سماوية فسيحة مطلة على مصر جلسوا يتسامرون. نجيب محفوظ كان مستأنسا بحضرة سعد زغلول يقرأ له بعضا مما كتبه عنه، وسعد باشا كان محرجا لأنه أقل بكثير من هذا الكلام، مشيرا لنجيب إلى أحمد عرابى الذى يحتاج أكثر منه إلى كلمتين حلوتين تخففان مرارته الدائمة من الولس. عبدالفتاح القصرى وبديع خيرى وليلى مراد كانوا ميتين من الضحك على أحمد زكى الذى كان يقلد نجيب الريحانى والريحانى لم يزعل أبدا ومن شدة البساطة طلب من أحمد أن يعيد تقليد محمود المليجى لكى يغيظه مجددا، سيد درويش كان مبسوطا بلقاء بليغ حمدى لكنه أقسم له أنه لن يكمل كلامه معه إلا إذا ذهب ليحب على رأس محمد الموجى. توفيق الحكيم كان مكسوفا من عبدالناصر لكنه أقسم له أنه كان صادقا فى مودته كما كان صادقا فى عودة وعيه بعد ذلك. عبدالناصر لم يطول معه فى الكلام واختلى بعبدالحليم الذى كان مندهشا لأنه بات ينزف مسكا بدلا من الدم. عبدالناصر أشار له إلى مصر ثم قال له: «شفت واخدانى الأمانى لحد فين» حليم لم يتقبل الدعابة وعبدالناصر شعر بالإحراج وغير الموضوع طالبا من حليم أن يتوسط له لدى صلاح جاهين الذى قال له فجأة وأمام الناس: «أيوه كنت أقصدك لما قلت ياطير ياعالى فى السما طظ فيك.. ما تفتكرش ربنا مصطفيك»، عبدالحليم تهرب ورأى أن الموضوع صعب لأن صلاح شايل جامد، وطلب من ناصر أن يترك الأمور تأخذ وقتها. الشيخ الغزالى الذى كان يجلس مستمعا بنشوة إلى أم كلثوم وهى تغنى القلب يعشق كل جميل، استأذن بهدوء لكى لا يقطع انسجام محمد عبده والأفغانى وفتحى رضوان وصالح سليم، وأخذ عبدالناصر من يده قائلا له: «عايز أقعدك مع حد»، وناصر وجد نفسه فجأة وجها لوجه أمام سيد قطب، الاثنان صافحا بعض بفتور بعد أن ذكرهما الغزالى أنهما فى دار الحق. سيد قطب قال لعبدالناصر إن الأمر لم يكن يستحق الإعدام فرد ناصر بانفعال: «حط نفسك مكانى لو قالوا لك أن أحدا يريد أن يفجر القناطر الخيرية»، وسيد صمت قليلا ثم قال مغمغما: «إن ناصر هو الذى بدأ بالغلط». وعندما صمت عبدالناصر ابتسم سيد قطب قبل أن يقول له: «بصراحة ما كنتش متخيل إنى هاشوفك هنا فى الجنة»، ناصر ضحك بشدة وقال له: «شفت هذه هى المشكلة.. فاكر الجنة بتاعتك مع إننا كلنا الآن ننتظر الحساب». سيد قطب هز رأسه محرجا ثم ذهب ليجلس بجوار شهدى عطية الشافعى الذى قال له ضاحكا: «عاجبك كده.. ناقص يجيبوا لنا حمزة البسيونى عشان تكمل». علا الضحك من ركن يجلس فيه بيرم التونسى وفتحى قورة حيث كانا يرتجلان قصيدة حزينة ليثبتا لعبدالرحيم منصور أن كتابة النكد «مش صعبة يعنى» أمل دنقل وبهجت عثمان ضغطا على يوسف إدريس ليجلس مع نجيب محفوظ، ويوسف استجاب لكنه لم يتمكن من منع نفسه من التنبيط قائلا لنجيب: «يعنى ما جبتش نوبل معاك». ونجيب سريع البديهة رد على الفور: «قلت بلاش أضايقك وإنت ميت كمان». والاثنان ضحكا بشدة وحضنا بعض، ويوسف قال لنجيب إن أصداء السيرة الذاتية كات جامدة قوى، وعبدالوهاب غنى للجميع بناء على طلب سيد درويش: «حلم وصحيت منه لقيتنى هايم فى بحر الشوق وحدى، حبيت ظالم ياريته كان هنانى». من بعيد رأى الجميع السادات يتسلل محاولا الوصول إلى مكان لا يراه أحد، وعندما ذهب عبدالناصر إليه بخطى متحفزة تكهرب الجو وتأهب الجميع لفض خناقة عارمة لكن ناصر اكتفى بوضع يده على كتفى السادات ثم أحنى رأسه إلى الأسفل وجعله يأخذ نظرة عميقة إلى مصر قبل أن يشخط فيه قائلا: «عاجبك اللى عملته ده»؟ رفع السادات رأسه وهو يفكر فى رد مناسب لكنه عندما رأى نظرات السخط فى عيون الجميع ابتسم ابتسامة ريفية ماكرة ثم قال: «الواحد صحيح سابق عصره بس مش معصوم من الخطأ». والكل ماتوا من الضحك لكن مصر كانت غارقة فى همها تنظر إليهم بأسى شديد».