«على باب زويلة» عنوان لرواية للروائي الراحل سعيد العريان، تناول فيها أحداث سقوط دولة المماليك وشنق آخر سلاطينهم الأشرف طومان باى، وباب زويلة كان أحد الأبواب الرئيسية لمدينة القاهرة التى شيدها الفاطميون فى منتصف القرن العاشر الميلادى لتكون دارا لحكمهم، وباب زويلة الباب الجنوبي الكبير للمدينة، الذي كان المدخل الرئيسي لسكان الفسطاط والمناطق السكنية، التي امتدت إلى الجنوب من القاهرة بينها وبين العاصمة القديمة للبلاد، وقد اتخذ الباب موقعا لشنق المجرمين والمعارضين للدولة وتعليق جثثهم. وعندما وقع السلطان طومان باى فى يد عدو البلاد وعدوه سليم الأول العثماني بعد ثلاثة أشهر من الهروب والمقاومة، وقرر سليم إعدامه، تم تنفيذ الحكم عند باب زويلة، وكانت المرة الأولى والأخيرة التي يعدم فيها سلطان البلاد ويعلق على باب زويلة. وقد احتل طومان باى مكانة كبيرة فى وجدان الناس فى مصر، واستمرت تلك المكانة لأجيال عدة بعد استشهاده، أو إعدامه على باب زويلة، فقد ظل الناس يقرؤون الفاتحة عند مرورهم تحت باب زويلة فى الموقع، الذى شنق فيه طومان باى حتى سنوات قليلة مضت ترحما على الرجل، وكانوا يشيرون إلى بقايا حبل فى الخطف الموجود بسقف الممر الذى يتوسط الباب باعتباره الحبل الذي شنق به طومان باى. لقد نفذ الغزاة العثمانيون حكم الإعدام فى طومان باى فى يوم الاثنين الثاني والعشرين من ربيع الأول سنة 923 هجرية، الموافق للثالث عشر من أبريل سنة 1517 ميلادية، ففى ذلك اليوم تحرك موكب الأشرف طومان باى للمرة الأخيرة من معسكر سليم العثمانى فى بر إمبابة عابرا إلى بولاق مخترقا القاهرة إلى باب زويلة، حيث شنق هناك وسط صراخ الناس وعويلهم، ويصف مؤرخو القرن العاشر الهجرى فى مصر اليوم والمشهد بألفاظ تنم عن حالة الحزن. فيقول ابن زنبل الرمال: «وكان ذلك اليوم على أهل المملكة أشأم الأيام، وبكت عليه الأرامل والأيتام»، أما المؤرخ محمد بن أحمد بين إياس المصرى فيقول: «فلما شنق وطلعت روحه صرخت عليه الناس صرخة عظيمة وكثر عليه الحزن والأسف، فإنه كان شابا حسن الشكل سنه نحو أربع وأربعين سنة، وكان شجاعا بطلا تصدى لقتال ابن عثمان وثبت وقت الحرب وحده بنفسه، وفتك فى عسكر ابن عثمان وقتل منهم ما لا يحصى، وكسرهم ثلاث مرات فى نفر قليل من عسكره، ووقع منه فى الحرب أمور لا تقع إلا من الأبطال.. وقد مضت أخباره كأنه لم يكن». قال فى رثائه أبياتا منها: لهفى على سلطان مصر كيف قد ولى وزال كأنه لن يذكرا شنقوه ظلما فوق باب زويلة ولقد أذاقوه الوبال الأكبرا يا رب فاصفح عن عظائم جرمه واجعل جنات النعيم له قرا لقد تولى طومان باى عرش السلطنة عقب التأكد من مصرع عمه السلطان قانصوه الغورى فى مرج دابق، وكان العصر يحمل كل ملامح النهاية: انهيار للأوضاع الاقتصادية، ترتب عليه اضطراب اجتماعى، صراع سياسى بين الأمراء، ضعف عسكرى واضح، وأخيرا عدو خارجى متربص بالبلاد، وفى ضوء هذا الإطار التاريخى نستطيع أن نتفهم المصاعب، التى تواجه أميرا يتولى زمام الأمور فى عصر مضطرب، يرث فيه جيشا مهزوما، ووضعا داخليا منهارا بينما عدو زاحف يدق الأبواب. ورغم صعوبة الظروف فإن الصورة، التى رسمتها المصادر التاريخية المعاصرة لطومان باى عندما تتحدث عنه أميرا، ثم سلطانا حاكما، ثم سلطانا مخلوعا يقاوم العثمانيين تكشف عن ملامح شخصية متميزة ومختلفة تماما عن غيرها من أمراء ذلك العصر وسلاطينه، فالصورة التى أمامنا صورة لشخصية محببة إلى قلوب الشعب قريبة منه إلى حد بعيد، بل وملتحمة معه فى اللحظات الحرجة، كما حدث عندما استعان طومان باى بالمصريين فى مواجهة العثمانيين بعد أن دخلوا القاهرة ونجح فى استردادها منهم بعدة أيام. وقد ساعدت مقاومة طومان باى الباسلة للعثمانيين والنهاية المأساوية لهذه الشخصية فى حفر صورة مضيئة لطومان باى فى الوجدان الشعبى المصرى باعتباره واحدا من الأبطال القوميين فى تاريخنا رغم أنه جركسى الأصل. لقد أصبحت وقائع الغزو العثمانى لمصر التى سجلها الشيخ أحمد ابن زنبل الرمال، وأبرز فيها دور طومان باى فى التصدى لهذا الغزو، ومعاركه ضد سليم الأول وجيوشه، ثم وقوعه فى الأسر وشنقه واحدة من السير التى تروى فى مقاهى القاهرة فى العصر العثمانى، كما أن روايات الرحالة الأوروبيين لواقعة أسر طومان باى وشنقه، التى استمرت تتردد فى مدوناتهم عن رحلاتهم إلى مصر طوال أكثر من مائة عام تالية للغزو العثمانى للبلاد، تكشف عن المكانة التى احتلها طومان باى فى وجدان الشعب المصرى، فلا شك فى أن مصدر هذه الروايات، هم المصريون الذين التقى بهم هؤلاء الرحالة. وإذا كانت تلك الروايات قد امتلأت بالمبالغات عن بطولات طومان باى وشجاعته وصلابته فى مواجهة تعذيب تعرض له لانتزاع الاعترافات منه عن أماكن وجود كنوزه، فإن هذه المبالغات التى ولدها الخيال الشعبى تعكس مقدار الإعزاز الذى كان المصريون يحملونه لطومان باى. وحسبما تذكره المصادر العربية فإن إعدام طومان باى أحدث صدى واسعا بين المصريين، الذين حزنوا عليه حزنا شديدا، فقد ظل لعدة شهور بعد الغزو العثمانى لمصر يمثل أمل المصريين فى التخلص من هذا الاحتلال الجديد، وبإعدامه خبا هذا الأمل. وقد كان حزن الناس على طومان باى أمرا طبيعيا، فقد كان حسب معاصريه أميرا وسلطانا «لين الجانب قليل الأذى كثير الخير غير متكبر ولا متجبر، كما كان دينا صالحا خيرا فاضلا زائد الأدب والسكون والخشوع والخضوع»، كما تشير تلك المصادر إلى أنه كان زاهدا فى جمع المال بخلاف غيره من أمراء العصر وسلاطينه. إلا أن دعته وهدوءه لم يمنعاه من أن يكون محاربا شجاعا مقداما خبيرا بالحرب، وقد بدت مهارته الحربية فى معاركه، التى تصدى فيها لسليم الأول بدءا من الريدانية وانتهاء بمعركة الجيزة عبر ما يقارب الأشهر الثلاثة، وقد أذهلت شجاعته وقدراته الحربية معاصريه حتى الأعداء منهم، وقد سجل طومان باى بنفسه وفقا لرواية ابن زنبل الرمال ملحمته وحربه مع سليم وذلك بعد هزيمته الأخيرة فى موقعة الجيزة من خلال قصيدة طويلة أنشدها أمام الأهرام لأحد أمراء جيشه، الذين صمدوا معه حتى النهاية وهو الأمير قيث الرجبى، وعلقها على الهرم مثلما كانت المعلقات تعلق على أستار الكهعبة، وقال فى مطلعها: دموع العين فاضت من مآق وقلبى ذاب من كثر احتراق فلا نارى طفاها دمع عينى ولا دمعى يفيض من اختناق وشمس السعد فى شرق المعالى وبدر الضد فى درج المحاق فلما أن أراد الله هذا أتانا الروم من جهة العراق وسلطان الجميع سليم شاه عظيم الملتقى مر المذاق وكان الماجد الغورى منا مليكا شبه بحر فى اندفاق وكان الحرب يوم الحد لكن تولى جيشنا والحرب باق وسلطان لنا أضحى قتيلا طريحا والدماء لفى انهراق وكان الخائن الكلب الغزالى وخاير بك مبوطن فى النفاق هما أصل الهزيمة عن حقيق لدى حلب كخيل فى سباق وساروا بعدها سيرا حثيثا لغزة ثم مصر فى لحاقى ولما استجمعوا فى مصر قالوا نسلطن أيكم والضد باق وجاءتنا رجال الروم مصرا وقد حازوا البلاد مع الآفاق وأخرجت الجموع لنلتقيهم وكان الشر يوم الحرب راقى وفى خط المدافع قام قومى وزادوا فى الخصام وفى الشقاق وقد جاءت علينا الروم حقا كبحر هائج فى الاندفاق قتلنا من ملوكهم ثلاثا وأسقيناهم كأس الرهاق ولما قد رأوا ذا العقل منى أتونا كالجبال بانطباق وأسقيناهم كأس المنايا فخروا للذى مذ كنت ساقى ولما أن رأيت الحرب دارت على ولم تتابعنى رفاقى فوليت الجواد لنحو مصر وأيقنت الفناء والله باق ثلاثة أيام كان القتل فيهم وفينا والعساكر فى محاق وبعد الظهر جاءتنا جيوش عداد الرمل جمعا فى انطباق وزلزلت البلاد بهم إلى أن حسبت الحشر قام مع التلاقى فقلت لرفقتى خلوا وفلوا وولينا جميعا بافتراق وعدنا عن قتال الروم قهرا لقينا قيث رجبى من بلاق وعلقنا على الأهرام شعرا كنظم الدر فى حسن السياق لمن يقرأه معبرا ليدرى بأن الله بعد الخلق باق وتجزى كل نفس يوم عرض بما فعلته فى يوم التلاقى ولم يكن حب الناس لطومان باى مرتبطا بتوليه للسلطنة ومقاومته للعثمانيين، فمنذ كان أميرا دوادارا كبيرا فى عصر عمه السلطان الغورى كان محببا لعامة الناس لاختلافه عن غيره من الأمراء، هذا وقد امتد الإعجاب بطومان باى إلى الأوروبيين المعاصرين فبعد أكثر من مائة عام على شنقه نجد صورة هذا المشهد حاضرة فى كتابات الرحالة الأوروبيين الذين زاروا مصر، وقد دفع هذا الإعجاب مؤرخا إيطاليا معاصرا لطومان باى هو باولو جيوفو إلى وضع طومان باى ضمن الشخصيات التاريخية الكبرى فى العالم، وإلى إفراد قسم من تاريخه لطومان باى. لكن هل هذه الصورة المثالية التى رسمها المؤرخون والرحالة لطومان باى دقيقة تماما؟ لقد كان طومان باى أميرا ثم سلطانا محبوبا من الناس، وذلك كما تذكر المصادر لقلة الأذى والضرر الذى كان يسببه للعامة إلا أن مناقبه ينبغى ألا تدفعنا إلى رسم صورة مثالية خيالية له، فمحاسنه تلك تقاس إلى أمراء عصره وسلاطينه وما كانوا يرتكبونه من مظالم فادحه بحق الرعايا، أم هو فكانت مظالمه قليلة ومحدودة، كما أن تصويره بصورة الزاهد الفقير أمر مبالغ فيه، فقد كانت له ثروة ضخمه وقفها على نفسه وعلى ذريته من بعده أثناء حياته، ووقف جزء منها على بعض المساجد والأعمال الخيرية، خاصة تلك المساجد، التى شيدها عمه السلطان الغورى، لكن الشعوب تصنع لأبطالها الصورة، التى تحبها بغض النظر عن الحقيقة التاريخية. عموما لقد استشهد طومان باى فى ابريل سنة 1517 لكنه ظل حيا فى وجدان المصريين لسنوات وسنوات تشهد على ذلك المعتقدات، التى نسجها خيال الشعب حول باب زويلة والمنطقة المحيطة به حيث شنق طومان باى.