فى ذكرى قيام إسرائيل تواجه الدولة سلسلة تحديات معقدة تتبلور فى تهديد استراتيجى عام، فى طليعته إيران (البرنامج النووى والتوسع الإقليمى)، والمشكلة الفلسطينية (الضفة الغربية وقطاع غزة)، والأزمة العالمية بأبعادها التاريخية وتداعياتها المباشرة على الشرق الأوسط. إلى جانب ذلك تعيش إسرائيل مرحلة استقرار، وتعكس قوة استراتيجية على الساحتين الدولية والإقليمية من خلال ترسيخ الردع والتفوق العسكرى. الساحة الفلسطينية.. قابلة للانفجار تكتيكيًا واستراتيجيًا استعدت إسرائيل لمواجهة سيناريو تصعيدى فى شهر رمضان، فعملت مسبقا على تحييد مراكز الاحتكاك فى القدس (الشيخ جراح والحرم القدسى الشريف)، وسمحت بدخول واسع النطاق للمصلين المسلمين إلى المسجد الأقصى، وبالاحتفالات برمضان فى بوابة نابلس، ومنعت العقوبات الجماعية من خلال المحافظة على التنسيق الأمنى مع السلطة الفلسطينية. فى المقابل، قامت «حماس» بجهد تحريضى واسع النطاق بهدف تصعيد الوضع فى القدس والضفة الغربية ووسط العرب فى إسرائيل، وعملت على جعل إسرائيل تدفع الثمن على صعيد الوعى على الساحتين الدولية والإقليمية. وكان الهدف من تحرك «حماس» تعزيز قيادتها على الساحتين الفلسطينية والإقليمية كمدافعة عن «المقدسات الإسلامية»، وتعزيز موقعها للاستيلاء على الزعامة السياسية فى «اليوم التالى» بعد أبومازن. فى هذه المرحلة، نجحت إسرائيل فى منع التدهور إلى تصعيد واسع النطاق فى الضفة الغربية وفى قطاع غزة (على الرغم من إطلاق الصواريخ من القطاع ومن لبنان)، وفى عدم تحويل الانتباه الدولى من الساحة الأوكرانية إلى الشرق الأوسط. فى المقابل، لم تجعل إسرائيل «حماس» تدفع الثمن على الرغم من أن الأخيرة هى التى قادت التصعيد من وراء الكواليس، فخاضت معركة لجم واحتواء تكتيكية فى مواجهة استراتيجيا «حماس» الشاملة. على الصعيد الإقليمى، باءت محاولات التنسيق الاستراتيجى المسبق مع الأردن بالفشل، وأدت إلى نشوب أزمة علاقات ثنائية بين الدولتين بسبب سلوك إسرائيل فى القدس، وطالب الأردن بتعزيز دور الوقف والتشدد فى تطبيق الوضع القائم. مع ذلك، وعلى الصعيد الإقليمى الواسع النطاق، وعلى الرغم من ارتفاع حجم التحريض والانتقادات العلنية ضد إسرائيل، فإن هذا لم يؤد إلى تصدع التعاون الاستراتيجى والأمنى الجارى. هل هناك عودة إلى الاتفاق النووى؟ قال وزير الخارجية الأمريكى أنتونى بلينكين أمام مجلس الشيوخ إن إيران تستطيع أن تطور قنبلة نووية خلال أسابيع معدودة إذا قررت أن تفعل ذلك. وفى توضيح أصدره البيت الأبيض جرى التشديد على أن الحجة التى عُرضت تتعلق بالوقت الذى تستطيع خلاله إيران تخصيب المادة الانشطارية المطلوبة من أجل إنتاج قنبلة، بدءا من اللحظة التى تقرر فيها تطوير سلاح نووى وليس إنتاج قنبلة فعلا. وشدد بلينكين على أن الحل الدبلوماسى ما زال هو المفضل، ولم يستخدم لغة تهديدية ضد إيران فى حال عدم التوصل إلى اتفاق. فى هذه المرحلة، لم تتقدم المفاوضات بسبب مسألتين مركزيتين هما: عدم استعداد الولاياتالمتحدة إزالة الحرس الثورى الإيرانى عن قائمة التنظيمات الإرهابية فى ظل الانتقادات السياسية والأمنية، والتخوف من تداعيات القرار على الانتخابات النصفية فى نوفمبر، وضغط حلفاء الولاياتالمتحدة فى الشرق الأوسط على واشنطن وعلى البيت الأبيض؛ مطالبة إيران بضمانات أمريكية بأن الولاياتالمتحدة لن تنسحب من الاتفاق الجديد فى حال تغيرت السلطة فى واشنطن. بالنسبة إلى إيران، فإن العودة إلى الاتفاق النووى ستؤدى إلى تحرير الأموال المجمدة فى الحسابات المصرفية فى الخارج (حوالى 100 مليار دولار)، وإلى انخراطها كلاعب مهم فى سوق النفط والغاز فى فترة أزمة عالمية وارتفاع أسعار. مع ذلك، فإن عدم الثقة والشكوك المتبادلة بين الطرفين، بالإضافة إلى ظروف سياسية داخلية، كلها أمور يمكن أن تؤدى إلى فشل بلورة الصفقة. الاستراتيجيا الإيرانية شاملة وثابتة، فإلى جانب الاستمرار فى التوظيف فى تطوير المعرفة والقدرات النووية، تعمل طهران على تعزيز نفوذها الإقليمى، سواء بواسطة مواصلة تمركزها الإقليمى فى العراق وفى سورياولبنان أو من خلال إجراء حوار استراتيجى لتحسين العلاقات الثنائية مع السعودية وتعزيز العلاقات الاقتصادية مع الإمارات. فى المقابل لا تتخوف طهران من استخدام الضغط على دول الخليج بواسطة قوات وكلائها فى اليمن، أو الضغط على الولاياتالمتحدة من العراق، بل هى تسعى إلى تصديع اتفاقات أبراهام، وإضعاف المنظومة الموالية لأمريكا فى المنطقة، والدفع نحو انسحاب القوات الأمريكية، وبالتالى ترسيخ نفوذها الإقليمى واستخدام ضغط عام على إسرائيل من خلال إبعاد التهديدات عن حدودها. فى المقابل تتحرك إسرائيل من خلال المعركة بين الحروب لمنع التمركز الإيرانى فى المنطقة، والمحافظة على حرية تحركها العملانى من خلال آلية منع الاحتكاك مع الروس، وتعزيز العلاقات الاستراتيجية الأمنية مع المعسكر السنى الموالى لأمريكا بهدف استخدام ضغط معاكس على طهران. وفى هذا الإطار فإن عودة الحرارة إلى العلاقات مع تركيا لها أهمية استراتيجية، فى المدى البعيد، فى المعركة فى مواجهة إيران، وفى إضعاف الاعتماد الأيديولوجى والاقتصادى ل «حماس». توصيات لإسرائيل التصعيد على الساحة الفلسطينية خلال شهر رمضان يؤكد من جديد الحاجة إلى مناقشة الاستراتيجيا الإسرائيلية إزاء «حماس». فالمبادرات الإسرائيلية الواسعة النطاق التى أُعطيت لغزة بعد عملية «حارس الأسوار»، من دون المطالبة فى المقابل بتنازلات من جانب «حماس»، سمحت للحركة بتوجيه «الإرهاب» والتحريض نحو الضفة الغربية وإسرائيل، مع المحافظة على مساعى إعادة إعمار القطاع، وعلى المساعدة فى مقابل تهدئة أمنية. كذلك نجحت «حماس» فى حمل العصا من الطرفين، وتطبيق استراتيجيا تؤدى إلى موضعتها فى الساحة الفلسطينية بصفتها «المدافع عن القدس»، بالإضافة إلى تعزيز قوتها وبناها التحتية فى غزة، فى مقابل الحفاظ على الهدوء الأمنى. يتعين على إسرائيل بلورة استراتيجيا شاملة هدفها إضعاف «حماس»، وتعزيز السلطة الفلسطينية. وفى هذا الإطار، يجب أن تدفع «حماس» ثمن أفعالها التدميرية، إلى جانب تعزيز السلطة الفلسطينية أمنيا واقتصاديا. ومن شأن عدم وجود استراتيجيا إسرائيلية شاملة، باستثناء السياسة الحالية ل«إدارة النزاع» بواسطة سياسة «الجزرة والعصا»، تقليص القدرة الإسرائيلية على العمل فى المجال العملانى وفى مجال الرد، الأمر الذى يساعد «حماس» على الساحة الفلسطينية. يشكل الأردن رصيدا استراتيجيا فى عقيدة الأمن القومى لإسرائيل، وزعزعة الاستقرار فيه ستنعكس بصورة مباشرة على الأمن الإسرائيلى على المستوى الاستراتيجى، وعلى الصعيد التكتيكي العملانى (حدود، و«إرهاب»، وتمركز قدرات نارية لقوى وكلاء إيران). على هذا الصعيد يجب انتهاج سياسة إسرائيلية حكيمة من خلال تعميق الأرصدة الإسرائيلية فى أمن المملكة، وذلك على الرغم من الخطاب الهجومى لعمّان بشأن كل ما له علاقة بالمسجد الأقصى والوضع القائم فى القدس. مستقبل الاتفاق النووى بين الدول الكبرى وبين إيران لم يُحسم بعد، لكن فى أى سيناريو سيكون على إسرائيل مواجهة تهديد معقد ومتعدد الأبعاد. إذ تفرض الاستراتيجيا الإقليمية لإيران والتطورات المحتملة لبرنامجها النووى على إسرائيل توطيد التعاون الاستراتيجى مع الولاياتالمتحدة، بالإضافة إلى تعزيز العلاقات الأمنية مع المعسكر السنى فى المنطقة. وفى هذا النطاق المطلوب من إسرائيل التوظيف فى بناء قوة خاصة بمساعدة أمريكية من أجل تعزيز قدراتها المستقلة لمواجهة التهديدات الناشئة فى الدائرتين الثالثة والأولى. بالإضافة إلى ذلك لا تزال المعركة بين الحروب تشكل أداة فعالة لإخراج إيران من الساحة السورية، والمس بعمليات بناء حزب الله لقوته، وتعزيز قوة الردع الإسرائيلية فى المنطقة. حتى الآن يبدو أن التنسيق الاستراتيجى مع موسكو لم يتضرر، وما زال الجيش الإسرائيلى يحتفظ بحرية التحرك العملانى، لكن مع ذلك يتعين على إسرائيل أن تستعد لمواجهة انعكاسات الصراع العالمى على السياسة الروسية فى الشرق الأوسط، وخصوصا حرية عمل الجيش الإسرائيلى. تعزز تطورات المعركة فى أوكرانيا المخاوف من اندلاع مواجهة مباشرة بين الغرب وروسيا. ذلك بأن حدود المعركة تتوسع، ويحاول كل جانب بلورة منظومة تحالفات استراتيجية لتشديد /أو كسر الحصار على روسيا. فى السياق الشرق الأوسطى تنعكس الأزمة فى العلاقات بين الولاياتالمتحدة والسعودية والإمارات على قدرة واشنطن على بلورة ائتلاف إقليمى ضد روسيا. تقضى المصلحة الأمنية الإسرائيلية بقاء دول الخليج ومصر والأردن تحت الدعم الأمريكى، فى ضوء التداعيات الاستراتيجية الخطرة، فى المدى البعيد، على أمن إسرائيل فى حال حدوث تغيير، ولإسرائيل دور فى التوسط بين واشنطن وبين المعسكر السنى وتبديد التوترات. وهذا الدور يعزز أيضا مكانة القدس وأرصدتها فى واشنطن وفى دول المنطقة. تقدم المعركة فى أوكرانيا دروسا على المستوى العسكرى التنظيمى، وعلى المستوى العملانى التكتيكى، منها: أهمية وجود استخبارات ذات دلالة ونوعية، والحاجة إلى تعزيز التفوق الجوى، وقدرة فعلية على المناورة، ونيران دقيقة وفتاكة، والدفع من المستوى الاستراتيجى إلى المستوى التكتيكى، إلى جانب تعزيز الدفاع المتعدد الأبعاد، والقدرة على الصمود وامتصاص الضربات، وترسيخ شرعية دولية وداخلية. إن هذه الدروس يجب تعميقها فى حال حدوث معركة على الجبهة الشمالية، أو معركة متعددة الجبهات قد تدخل فيها إسرائيل.