على المسئولين فى مصر أن يكفوا عن حديث أنها الأكبر من حيث السكان فى دول حوض النيل، لأن فى 2020 سنصبح فى الترتيب الثالث بعد إثيوبيا والكونجو». إنها واحدة من مفاجآت «لغة الإحصاء» التى يفجرها هذا الخبير الدولى، مصرى المولد، سمير فريد. هو مستشار الأممالمتحدة لشئون الإحصاء، وجاء إلى لندن قبل أكثر من 44 عاما من أجل دراسة الدكتوراه بعد أن تخرج فى أول دفعة من كلية الاقتصاد بجامعة القاهرة. عمل فى جهاز الإحصاء البريطانى لسنوات، رغم رفضه الحصول على الجنسية البريطانية، وانتقل بعدها إلى صفوف الأممالمتحدة، واليوم يعمل على مشروع جديد مع الاتحاد الأوروبى «لإحصاءات الهجرة». أصدر 30 كتابا حول العالم العربى، والفكرة قد تبدو بسيطة: مسح ديموجرافى. لكن النتائج التى يصل إليها هى أكثر من أرقام تراصت جنبا إلى جنب. المثال على ذلك أن حديث الحكومة عن 650 ألف عاطل بحاجة إلى وظيفة كل عام، «هو حديث مغلوط، والرقم الحقيقى هو الضعف»، فى رأى فريد. خبير الإحصاء المرموق، لديه الكثير ليرويه: أحداث سياسية حركت مصر وأثرت فى حياته، شخصيات كان لها فى لحظات فارقة علامات. لكنه يرفض الخوض فى هذه الأمور، «لو كل واحد اكتفى بالحديث فى تخصصه، لأصبح حالنا أفضل بكثير». «الشروق» قابلت سمير فريد فى عاصمة الضباب وسألته عما تقوله الأرقام والإحصاءات عما يحدث فى مصر الآن، وعن المستقبل فى العقد المقبل. كيف يستطيع علم الإحصاء، وهو مجال لا يحظى بشعبية كبيرة، أن يتعامل مع الأرقام، وأن يقدم من خلالها قراءة للمستقبل؟ لا يوجد رقم مطلق، وإنما رقم منسوب لآخر يسمح بقراءة الصورة على حقيقتها الإحصاء علم تمتد خطورته إلى الحرب. هذا ما فعلته الولاياتالمتحدة مع العراق على الأقل قمت بدراسة ديموجرافية لصالح اليونيسف، وتوصلت إلى أرقام تقول إن نسبة الخصوبة فى العراق 4.7 طفل للسيدة الواحدة، فقال لى المسئولون العراقيون: «لا يجوز، السيد الرئيس القائد طلب من كل ماجدة عراقية إنجاب 5 أطفال». وتوصلت أيضا إلى أن نسبة وفيات الأطفال العراقيين 32 فى الألف، فقالوا لى: «السيد الرئيس القائد طلب أن تكون 20 فى الألف». قدمت التقرير إلى اليونيسف، وفيما بعد، استخدم المندوب الأمريكى هذا التقرير ليرد على اتهام العراقيين بأن الحصار أدى إلى وفاة الأطفال. العراقيون استخدموا الأرقام التى كان صدام قد طلبها، والأمريكيون استخدموا رقم اليونيسف ليدللوا على أن معدلات الوفيات قد انخفضت رغم الحصار. تتخصص معظم دراساتك فى أحوال مصر والعالم العربى، لكنك مقيم فى إنجلترا طوال الوقت. عندما بدأت دراسة الإحصاء كان الكمبيوتر اختراعا جديدا، ومازلت أذكر هذه الجملة التى قالها لنا مدير معهد التخطيط: «باستخدام الكمبيوتر تستطيع أن تقوم فى ربع الساعة بعملية تتطلب ألف شخص يقومون بعمليات حسابية لمدة 20 سنة». جملة أبهرتنا جميعا وقتها. كنا تخرجنا فى دفعة واحدة، سمير رضوان ونادر فرجانى وأنا، وحصلنا على منح للدكتوراه. سافرت إلى إنجلترا لدراسة الدكتوراه، على أن أعود بعدها إلى مصر. الغريب إنه عندما طلبت بيانات من الأجهزة المصرية لأقيم عليها دراستى، رفضوا وقالوا لى «يفضل أن تستخدم بيانات من الدولة التى تدرس فيها». أذكر جيدا يوم الامتحان. فى ذلك الصباح ذهبت للمطعم فى المركز الثقافى المصرى بانتظار الموعد. كانت الرسالة عن استخدام الكمبيوتر فى تحليل البيانات السكانية، ذهبت للجنة الامتحان، لم يستغرق الأمر سوى 5 دقائق. قالوا لى خلاص لقد أرسلنا إلى مصر نخبرهم بحصولك على الدكتوراه. ثم أضاف الأستاذ المشرف على الرسالة قائلا إن رئيسة جهاز الإحصاء البريطانى مهتمة بعملك لماذا لا تذهب لمقابلتها؟ هى فى انتظارك غدا. هل كان قرار البقاء فى لندن قرارا صعبا؟ كنت قد جهزت نفسى للسفر، وأرسلت حقائب وأشياء إلى مصر لكنى ذهبت فى الموعد وعرضت على السيدة أن أعمل 6 أشهر، فقالت «ممكن تبدأ من بكرة»، وهذا ما حدث. لما انتهت المدة سألونى تقبل 6 أشهر أخرى وهكذا لمدة أربع سنوات. كنت أعمل بموافقة استثنائية من رئيس الوزراء البريطانى لأنى أجنبى. وهو ما كانت تعترض عليه وزارة الداخلية واشترطوا إما أن أحصل على الجنسية البريطانية أو أرحل. رفضت الجنسية وقلت لهم «ما أقدرش، أنا كنت بأخرج فى مظاهرات ضد بريطانيا أيام حرب السويس». رئيسة الجهاز حصلت لى على استثناء سنتين إضافيتين، وفى السنة السابعة قالوا تأخذ الجنسية أو تكون هذه آخر مدة، فمشيت. كانت الأممالمتحدة تعمل على مشروع ديموجرافى على مستوى العالم، وطلبوا منى أن أتولى الدراسات فى الشرق الأوسط وكان مقر المشروع فى لندن. سبع سنوات أخرى، ثم عملت مع السعودية ودول الخليج. وكيف ترى المشهد الاقتصادى من خلال علوم الإحصاء؟ مفهوم السياسة الاقتصادية مخيف. لمجاملة رجال الأعمال وحدت الحكومة الضريبة على الدخل وعلى الأرباح التجارية. أى أن العامل يدفع 20% ضريبة على دخله، ويدفع رجل الأعمال والملياردير 20% أيضا. فى كل الدول الرأسمالية، الضرائب تصاعدية وفقا لقيمة الدخل، إنما فى مصر بأقول للمواطن اكسب مليارات وادفع قليل، اكسب مليارات وحول أموالك للخارج واقترض من البنوك المصرية واذهب للاستثمار فى إيطاليا وبنجلاديش. هل تتحفظ على نظام ضريبة الدخل فقط، أم على مجمل النظام الضريبى فى مصر؟ خلينى أقارن بالوضع فى بريطانيا مثلا. هنا آخر تقدير للضرائب العقارية تم منذ 25 سنة ولم تتجرأ أى حكومة، سواء كانت من حزب العمال أو المحافظين، على إعادة التقدير، بينما فى مصر سيتم التقدير كل 5 سنوات، واخترعوا إلى جانب ذلك قصة الإقرار السنوى. لنحسب حسبة بسيطة. هناك حوالى 20 مليون وحدة عقارية سعرها فوق نصف المليون جنيه، أى أنها تخضع للضريبة العقارية. أنا إذن أطالب من 20 مليون مواطن أن يتوجهوا إلى مكاتب الضرائب العقارية فى مدة 6 أشهر. هل من صاغ هذا القانون، قام بحساب قوة احتمال المكاتب وأعداد الموظفين والأوراق؟ هل يجوز بذل هذا الجهد ليذهب المواطن ويقول إن «الوضع لم يتغير»؟ أعتقد أن الأفضل أن يقدم الإقرار مرة واحدة مع إضافة بند يتعهد فيه المالك بإخطار الشهر العقارى فى حالة حدوث أى تغيير، وأن يتم مد فترة التقييم إلى 10 سنوات بدلا من 5 فقط. الجزء الآخر متعلق بقيمة الضريبة. فى مصر وزارة المالية حددت 10% ضرائب على القيمة الإيجارية، فى حين أنها لا تتعدى 3 فى الألف فى إنجلترا، وتبدأ بنصف فى الألف. حتى بالمقارنة بجميع الدول الأوروبية، 10% رقم كبير وفى اعتقادى أن هذا القانون سيتسبب فى العديد من المشكلات عند التطبيق، والدولة لن تستطيع سجن 20 مليون مواطن لأنهم لم يقدموا الإقرارات. خصصت الكثير من جهدك لدراسة النمو السكانى، ماذا تقول الإحصاءات عن المستقبل «السكانى» لمصر؟ عام 1983أصدرت كتابا بالتعاون مع الأممالمتحدة وجهاز الإحصاء فى مصر، أشرت فيه أنه بعد 27 عاما أى فى 2010، سيتضاعف عدد سكان مصر ليصبح 84 مليونا بدلا من 42 مليون نسمة. معنى ذلك أننا حتى لو تمكنا من بناء مصر أخرى موازية لمصر الحالية، ستبقى مصر محلك سر. بمعنى أننا لو بنينا 180 مدينة جديدة، و3 آلاف قرية أخرى، وضعف عدد المصانع والمدارس والمستشفيات وكل ما هو على أرض مصر فى ذلك اليوم، حتى لو حدث ذلك ستبتلع الزيادة السكانية كل شىء، وهذا ما قلته للرئيس مبارك خلال لقائه بالجالية المصرية فى لندن نهاية الثمانينيات. رغم الزيادات الحالية والقادمة، يبدو الوضع السكانى فى مصر مثيرا للقلق، على مستوى أفريقيا أو دول حوض النيل على الأقل. من أين يأتى القلق؟ حتى وقت قريب كان المسئولون فى مصر يشددون فى حديثهم مع دول حوض النيل، على أن حصتنا من المياه هى «حقنا» ولا يمكن المساس بها «لأننا أكبر دولة. وفعلا حتى وقت قريب كانت مصر هى الأكبر من حيث عدد السكان. لكن اليوم إثيوبيا تخطتنا لتصبح فى المركز الأول. وفى 2020 سنصبح فى الترتيب الثالث بعد إثيوبيا والكونجو، فهذه الأخيرة تقترب منا بسرعة، فى حين أن أوغندا تزاحم السودان على المركز الرابع. علينا إذن أن نتوقف عن حديث أننا الأكبر فى دول حوض النيل، لأن هذا الكلام سيدفع بهذه الدول إلى القول إنها أيضا بحاجة إلى حصة أكبر من مياه النيل. تعتقد إذن إننا لم نتحرك أى خطوة للأمام؟ لا أحد ينكر أن بعض الأشياء تطورت، لكن الزيادة السكانية كما قلت تأكل كل شىء. وهل ترى فى الزيادة السكانية سببا كافيا لتحليل أزمات مصر؟ لا. السبب الرئيسى هو الفساد. لكن نحن سنصل قطعا إلى 120 مليون نسمة خلال العشرين سنة المقبلة، حتى لو أنجبت كل سيدة طفلين فقط. السؤال ليس هل سنصبح 100مليون أو أكثر، السؤال هو عملية القفز من من 42 إلى 84 إلى 100 مليون تستغرق كم عاما؟ أعتقد أن الشباب أصبح على درجة أعلى من الوعى ورغم حديث البعض عن أن حملة تنظيم الأسرة لم تسفر عن نتائج جيدة إلا أن متوسط عدد الأسرة انخفض من 5.3 إلى 3.2 فرد. ربما، بإدارة أكثر كفاءة، كان من الممكن أن نصل إلى نتائج أفضل، فهناك دول أخرى مثل تونس وماليزيا وسريلانكا حققت نتائج أفضل من مصر بكثير. نحن الآن على أبواب المرحلة الأصعب فالانخفاض من 3.2 إلى 2 سيكون غاية فى الصعوبة خاصة وان الأمية مازالت منتشرة فى الريف. وكيف تفسر استمرار ظاهرة الأمية فى الريف رغم ستة عقود من التعليم المجانى فى مصر؟ هناك ترويج لفكرة، يتبناها أيضا عدد من الصحفيين، مفادها أن مجانية التعليم هى السبب فى تدهور جودة التعليم نفسه وأنها سبب المشكلات كلها. التعليم مجانى فى الدول الأوروبية ونحن فى مصر اخترعنا مصاريف ورسوم قيد وصلت إلى 600 جنيه فى الجامعة، فى المقابل ما قيمة ما يحصل عليه خريج الجامعة اليوم؟ إذا عمل فى القطاع العام سيحصل على 250 جنيها، يعنى مصاريفه تعادل راتب 3 أشهر. بريطانيا هى الدولة الأوروبية الوحيدة التى جعلت التعليم الجامعى بمصاريف، قيمتها 3 آلاف جنيه إسترلينى، أى ما يعادل راتب شهرين. بالإضافة لذلك أعطت الحكومة البريطانية الفرصة للطالب للحصول على قرض بقيمة المصاريف يسدده على 15 سنة. تبقى الحقيقية هى أن التعليم فى مصر ليس بالمجان. الشىء الآخر أن من يروج لإلغاء هذه المجانية المفترضة، يقول إنها ستقضى على الدروس الخصوصية، وسؤالى هو هل الدروس الخصوصية حكر على المدارس الحكومية أم تمتد أيضا للمدارس الخاصة؟ الإجابة أنها فى الاثنتين. أنا مستعد أن أحترم وزيرا يطلع ليقول: «إمكانيات الدولة لم تعد تسمح أن يكون التعليم بالمجان، ولابد أن يساهم الشعب فى تمويله». قد اختلف معه لكن الأكيد سأحترمه. كما يمكن للدولة فى المقابل أن تجد موارد أخرى للإنفاق على التعليم. لترفع الدولة الضرائب على الأرباح التجارية، عوضا عن فرض ضريبة واحدة على المستويات المختلفة للدخل وتنفق هذه الأموال على التعليم. نحن أمام زيادة مستمرة فى تعداد السكان، يصاحبها مستوى تعليمى متدن ويوازيها تصاعد لأرقام البطالة. لكن الحكومة المصرية تؤكد تراجع معدلات البطالة وتتحدث عن خلق 650 ألف فرصة عمل سنويا. أنا لدى مشكلة مع هذا الرقم تحديدا. فى رأيى أن الحسبة خاطئة، والرقم الحقيقى الذى تحتاجه مصر للقضاء على البطالة هو الضعف. من عشرين عاما، أى فى 1989، كان عدد المواليد الجدد فى مصر مليون و600 ألف، لنفترض، وإن كان هذا عمليا يبدو مستحيلا، أن كل هؤلاء الأشخاص التحقوا بالتعليم الابتدائى والإعدادى والثانوى والجامعة. من المفترض أن يكونوا تخرجوا اليوم ودخلوا سوق العمل. ووفق إحصاءات الوفيات قد يكون توفى منهم 100 ألف، إذن يتبقى مليون ونصف. 51% منهم رجال و49% نساء، كما يقول جهاز الإحصاء. 46% فى الحضر و 54% فى الريف. لنخصم كل السيدات فى الريف، أى 350 ألفا، ونقول إنهن غير راغبات فى العمل. يتبقى مليون و200 ألف مصرى يبحثون عن فرصة عمل سنويا. سواء أكملوا تعليمهم أم لا، هم دخلوا على سوق العمل. المشكلة إذن أنه حتى وإن نجحت الحكومة فى توفير 650 ألف وظيفة كما تقول، يتبقى لدينا نفس هذا الرقم من العاطلين ونفس الرقم من السنة السابقة والسنة الأسبق وهكذا. عندما يقول رئيس الوزراء «خلقنا فرص عمل جديدة»، هو يقول الحقيقة. بيانات الحكومة لا تكذب، والناس عندما تقول «ده كلام هجص» هى أيضا تقول ما تشعر به. الشاب يبحث عن عمل ولا يجد، يبحث عن شقة ولا يجد. ومن هنا تتسع الهوة بين الشعب والحكومة، لأن المطلوب غير المستهدف. الحكومة تتحدث عما تم إنجازه والمطلوب شىء آخر. بالإضافة إلى ذلك، تغفل الحكومة تماما العمالة المؤقتة فى القطاع الخاص، التى تنضم لاحقا إلى صفوف البطالة.