أخشى أن يُبتذل مفهوم الأمن القومى لمصر، بحيث ينضم إلى العناوين الجليلة الأخرى التى لحقها الابتذال، من الديمقراطية إلى الشرعية والوطنية. 1 من بين الإعلانات التى يبثها التليفزيون المصرى هذه الأيام واحد يظهر فيه جمع من الناس يهتفون بصوت عالٍ قائلين: مصر مصر، الأمر الذى يهيئ المشاهد لاستقبال قرار سياسى يهم مستقبل البلد على غرار تأميم قناة السويس أو العبور إلى سيناء، لكنه يفاجأ فى اللقطة التالية بصورة يظهر فيها منتج معلب لإحدى شركات المياه الغازية. وهذا الإعلان الذى استنفر الحس الوطنى لدى المصريين لكى يروج فى النهاية لمشروب المياه الغازية، لا يختلف كثيرا عن الإلحاح الحاصل الآن على فكرة الأمن القومى لتسويق عملية إقامة الجدار الفولاذى المدفون فى باطن الأرض على الحدود بين سيناء وقطاع غزة. عكفت الخميس الماضى على رصد عدد المرات التى أشير فيها إلى مصطلح «الأمن القومى» فى إحدى الصحف القومية، فوجت أن المصطلح ذكر 46 مرة، أكثر من نصفها «27 مرة» فى تعليقات كتاب الأعمدة، الذين أعرف أن واحدا منهم على الأقل لا يعى الفرق بين الأمن القومى والأمن المركزى، ويعتبر أن الأخير هو الأصل وأى أمن آخر فرعا عنه! فى مساء السبت التالى شاهدت حلقة أحد البرامج الحوارية المسائية التى أثارت موضوع الجدار. وكان المشاركون فى الحلقة ثلاثة، اثنان منهم أحدهما عسكرى قدم بحسبانه خبيرا أمنيا والثانى دبلوماسى سابق، دافعا بشدة عن إقامته باعتباره من ضرورات الأمن القومى، ومن الحجج التى ساقاها ما يلى: إن هناك خطرا من تكرار الاجتياح الفلسطينى الذى حدث فى شهر يناير من العام الماضى إن الأنفاق باب لتهريب البضائع والمخدرات بين القطاع ومصر إن هناك عمليات لتهريب الأشخاص والمتفجرات عبر الأنفاق تستهدف إشاعة الإرهاب وإثارة الفوضى فى مصر. لم يشر أى منهما بكلمة إلى أى خطر تمثله إسرائيل المحتلة والمدججة بالسلاح النووى. فى الوقت ذاته فإن الحجج التى ذكراها إما أنها لم تكن مقنعة، أو أنها اعتمدت على تقارير أمنية قدمت فى بعض القضايا المنظورة التى لم يُفصل فيها بعد. فحكاية الاجتياح على غرابتها لم تكن لها علاقة بالأنفاق، ولكنها كانت انفجارا ضد الحصار، ثم إن الذين دخلوا عبر رفح استوفوا حاجتهم ثم عادوا أدراجهم إلى غزة، أما عمليات التخريب فى داخل مصر، بما فى ذلك ما نسب إلى ما عرف باسم خلية حزب الله، فهى مجرد ادعاءات أمنية لم تُثبت. وللقضاء القول الفصل فيها. والقول بتهريب الأشخاص والمخدرات لا يبرر إقامة الجدار الفولاذى، فضلا عن أن هذه العمليات تحدث عبر الحدود فى كل مكان. وبالمناسبة فإن التهريب الحاصل بين مصر وليبيا فى مثل هذه المجالات أكبر مما هو بين سيناء والقطاع. (للعلم: نشرت جريدة الدستور فى عدد الأحد 27/12 أن 31 شابا من محافظة المنيا حاولوا التسلل عبر الحدود إلى ليبيا، وأن الشرطة أطلقت عليهم النار وقتلت 14 منهم. وذكرت عمليات التسلل هذه تتم بصورة شبه يومية). 2 من المفارقات أن الأبواق الرسمية التى ما برحت تلح هذه الأيام على ضرورة الجدار الفولاذى لحماية الأمن القومى المصرى غضت الطرف عن أن أخبار الجدار خرجت من إسرائيل ولم تخرج من مصر. أعنى أن البلد الذى تدعى أبواقه أن أمنه يتعرض للتهديد والخطر أخفى الأمر وتكتم عليه لعدة أشهر، فى حين أنه كان بوسعه لو كان يملك أدلة مقنعة على وجود ذلك الخطر أن يعلن الأمر بشجاعة على الملأ، وهذه الملابسات لا تشكك فقط فى جدية المبررات المصرية المعلنة، ولكنها أيضا تستدعى العديد من الأسئلة حول المقاصد الحقيقية لإقامة الجدار، والأطراف الحقيقية التى وقفت وراء المشروع، من حيث الفكرة والتمويل والتنفيذ. قبل استعراض تلك الاسئلة، فإننى أذكر بشهادتين تسلطان الضوء على خلفية الموضوع وملابساته. الشهادة الأولى مصرية، للسفير المصرى السابق إيهاب وهبة الذى نشر فى جريدة «الشروق» (عدد 1/2/2009) ثلاث ملاحظات على ما يجرى على الحدود، يهمنا اثنتان منها فى السياق الذى نحن بصدده. الأولى كانت حول انتهاكات إسرائيل المستمرة لما أوردته معاهدة السلام المبرمة عام 1979 والخاصة بصيانة الحدود واحترامها، وتركزت الملاحظة حول استمرار العدوان الإسرائيلى على الشريط الحدودى مع مصر منذ وقوع العدوان على غزة، الذى يمثل تهديدا حقيقيا لأمن مصر «حيث تقوم إسرائيل بقصف هذه المنطقة بمختلف أنواع الأسلحة والصواريخ والقنابل، التى أحدثت الكثير من الأضرار بالمبانى داخل الحدود المصرية وروعت المواطنين. بل وأوقعت بهم إصابات مختلفة. كل ذلك إلى جانب تدمير الأنفاق التى تدعى إسرائيل أنها تُستخدم فى تهريب السلاح إلى غزة». فى الملاحظة الثانية تحدث الدبلوماسى المصرى عن تقرير اطلع عليه صادر فى عام 2008 عن مركز أبحاث الكونجرس (ذكر رمزه ورقمه) وكانت الأنفاق موضوعه الأساسى، حيث استعرض كل التفاصيل المتعلقة بها. وذكر التقرير الذى وزع على أعضاء الكونجرس أن لجنة الاعتمادات قررت حجب 100 مليون دولار من المساعدات العسكرية لمصر، إلى أن تتأكد الخارجية الأمريكية من أن مصر أوقفت التهريب عبر الأنفاق ودمرتها. الشهادة الثانية إسرائيلية، وقد وردت على لسان عاموس جلبوع رئيس قسم الأبحاث الأسبق فى شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، وهو يمينى متطرف يكن عداء واحتقارا شديدين للعرب عامة والفلسطينيين بوجه أخص، لكنه من أشد المتحمسين لتوثيق العلاقة مع مصر، ويعتبر أن اتفاقية كامب ديفيد أهم حدث بعد تأسيس الدولة العبرية. هذا الرجل اشترك فى برنامج حول وضع إسرائيل الاستراتيجى فى العام الجديد، جمعه مع عدد من المستشرقين وبثه راديو تل أبيب فى 18/11 الماضى. وكان مما قاله النص التالى: إن العلاقات مع مصر تمثل أهمية كبرى بالنسبة لإسرائيل. والمتابع للسياسة المصرية يلاحظ أن نظام الرئيس مبارك خرج عن طوره بسبب مباراة كرة القدم بين مصر والجزائر، حتى أصبح يهدد بقطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. لكنه ينتهج سياسة مغايرة تجاه إسرائيل. فإلى جانب التزام النظام المصرى الصمت عندما قمنا بحملة (الرصاص المصبوب) ضد غزة مؤخرا، فإنه وفر الأجواء لاستمرارنا فى الحملة، رغم سقوط المئات من الفلسطينيين، كما أنه منع أى تحرك عربى لصالح الفلسطينيين خلال الحرب (يقصد إفشال مصر لمؤتمر القمة الذى دعت إليه قطر).. وفى أحيان عدة يتم قتل جنود مصريين (بواسطة الإسرائيليين) ممن تواجدوا بالقرب من الشريط الحدودى، لكن الحكومة المصرية لم تقم بأى إجراء. وهذا يدلل على وجوب تحقيق إجماع داخلى حول استراتيجية العلاقات مع مصر. وفى الوقت ذاته يجب أن نحث جماعات الضغط اليهودية وأصدقاءنا فى الكونجرس، لعدم الضغط على النظام المصرى فى كل القضايا الأخرى. ويجب أن يعلم الجميع أن نظام مبارك مهم لنا، ويجب توفير الأجواء المواتية لضمان تشجيع كل الذين يسيرون على خطاه». 3 لا يكاد يجد الباحث وثيقة أو تصريحا رسميا تحدث يوما ما عن الأنفاق كعنصر مهدد للأمن القومى المصرى، فى حين كانت الرؤية الاستراتيجية واضحة فى أن التهديد الحقيقى للأمن المصرى يتمثل فى إسرائيل وطموحاتها الاستيطانية والتوسعية على الأقل فقد كان ذلك هو الوضع قبل السنوات الخمس الأخيرة. التى نجحت إسرائيل خلالها فى اقناع بعض القيادات العربية بأن إيران هى العدو، وتفاقمت حالة العمى السياسى حتى وجدنا من يدرج حزب الله على قائمة الأعداء، ويضيف إليهم حماس، على نحو أحدث انقلابا فى الرؤية الاستراتيجية أوصلنا إلى ما نحن عليه الآن. وفى حين ظللنا نحن نتخبط من درك إلى آخر أسفل منه. كانت إسرائيل تواصل تقدمها، على أصعدة الحصار وقمع المقامة واستئصال عناصرها. جنبا إلى جنب مع الاستيطان والتهويد، بما يحقق لها التغول افقيا ورأسيا. وكان حظ غزة أنها ظلت رمزا للمقاومة ورفض الاستسلام، لذلك استهدفها الحصار والقمع والاستئصال. واعتبر تركيعها أحد عناصر تحقيق الأمن الوطنى الإسرائيلى. فى عام 1994 قامت إسرائيل بإحاطة قطاع غزة بسياج طوقها من البر، أما من ناحية البحر فإنها وضعت العوائق والعراقيل أمام الصيادين الفلسطينيين. وفى عام 2005 قامت ببناء حاجز تحت الماء يمتد إلى البحر من حدودها على غزة، تكون جزءا منه من قوائم خرسانية محفورة فى قاع البحر والجزء الآخر من سياج عائم يمتد لمسافة 950 مترا، وبعمق 180 سنتيمترا تحت الماء. فى شهر يونيو عام 2007، بعد سيطرة حماس على القطاع. فرض الحصار الكامل على القطاع وأغلقت المعابر. ومنها معبر رفح بطبيعة الحال. وكان ذلك الحصار بداية التوسع فى حفر الانفاق، التى كانت موجودة بصفة استثنائية من قبل وتستخدم فى عمليات التهريب غير المشروعة (المخدرات مثلا)، ولكنها تحولت بعد ذلك إلى شريان رئيسى يوفر احتياجات القطاع من مستلزمات الحياة الضرورية. ومن ثم أصبحت أحد أشكال مقاومة القهر والتجويع. لكن ذلك ظل مقلقا لإسرائيل وأنصارها فى واشنطن، فلم يكفوا عن ممارسة الضغوط على مصر لسد هذه الثغرة. طوال تلك الفترة ظلت الأنفاق تدمر بجهود مصرية استجابت للضغوط حينا، وبغارات وجهود إسرائيلية فى أغلب الأحيان. مع ذلك لم تتوقف فيها الحياة، وبالتالى لم تتوقف الشكوى منها. إلى أن اكتشفنا قصة السور الفولاذى المدفون تحت الأرض على الحدود مع القطاع، الذى بدا وكأنه الحل الأخير للإجهاز على ذلك الشريان الذى يسهم فى تعزيز صمود أهل غزة وتخفيف وطأة الحصار عليهم. 4 كشف النقاب عن المشروع سبب حرجا وارتباكا للسياسة المصرية، التى لم تعترف رسميا بوجوده، فى حين استنفرت الأبواق الإعلامية للدفاع عنه وتبريره بدعوى الحفاظ على الأمن القومى. الأمر الذى يستدعى اسئلة عدة منها على سبيل المثال: * إذا كان هناك أى تصور للمساس بأمن مصر الوطنى، لماذا لم تلجأ مصر قبل إقامة الجدار إلى التفاهم مع حركة حماس لعلاج الأمر، وهى المسيطرة على القطاع ويتم حفر تلك الأنفاق بعلمها.. وإذا كانت مصر قد تدخلت لوقف اطلاق الصواريخ من غزة نحو المستعمرات الإسرائيلية، ألم يكن الأجدر بها أن تتدخل لدى حماس لوقف ما تتصوره مساسا بأمنها؟ * إذا كان السور دفاعا عن الأمن القومى المصرى، فلماذا تنهض به الولاياتالمتحدة وفرنسا وغيرها من الدول الأوروبية، ولماذا تلك الحفاوة الإسرائيلية المشهودة به، ومنذ متى كانت تلك الأطراف مشغولة بالدفاع عن أمن مصر والوطن؟ * منذ متى وبأى معيار موضوع يمكن أن يشكل قطاع غزة تهديدا لأمن مصر؟ وهل يعقل أن يقام الجدار الفولاذى مع القطاع، فى حين تظل منطقة الحدود المباشرة بين مصر وإسرائيل (فى طابا مثلا) بدون أية احتياطات أمنية، ويرتع فيها الإسرائيليون كيفما شاءوا؟ * أليس الحصار هو المبرر الوحيد للتوسع فى حفر الأنفاق، وإذا كانت مصر حريصة حقا على أمنها الوطنى، لماذا لا تكثف جهودها وتمارس ضغوطا لرفع الحصار، بدلا من أن تتورط فى التصدى للنتائج المترتبة عليه؟ * ما مدى سلامة الموقف القانونى المصرى إذا اتهمت أمام المحاكم الدولية ناهيك عن محكمة التاريخ بأنها انتهكت القانون الدولى الإنسانى وأحكام اتفاقية جنيف الرابعة، وأسهمت فى حرمان الشعب الفلسطينى من أسباب عيشه الخاصة، الأمر الذى يعتبر اشتراكا فى ارتكاب جريمة ضد الإنسانية. * إزاء الحفاوة الإسرائيلية بالموافقة المصرية على بناء الجدار، هل يمكن القول إن تطابقا حدث فى الرؤية بين الأمن الوطنى الإسرائيلى والأمن القومى المصرى؟ * لا خلاف حول حق مصر فى الدفاع عن أراضيها والحفاظ على أمنها. لكن ألا يستحق المساس بالأرض أو تهديد الأمن إجماعا وطنيا، بحيث يعرض على مجلس الشعب على الأقل، بدلا من أن يُحاط الشعب المصرى علما به من إحدى الصحف الإسرائيلية؟ حين يفكر المرء فى إجابة تلك الأسئلة فسوف يدرك أن إقامة الجدار لا علاقة له بأمن مصر، وإنما هو فى حقيقته استجابة لدواعى أمن إسرائيل، فرضتها السياسة الأمريكية وقامت بتنفيذها تحت أعيننا، ولكننا أغمضنا وسكتنا، إلى أن قامت الصحافة الإسرائيلية بكشف المستور وفضح المسكوت عليه.