كان شهر رمضان يقترب، بينما كان الكاتب الكبير أحمد بهجت مطالبًا بكتابة شيئًا لصفحة الدين فى صحيفة «الأهرام»، راح الفيلسوف الزاهد يفكر ما الجديد الذى يمكنه تقديمه خلال هذا الشهر الكريم، وبينما الأفكار تتزاحم داخل رأسه لاح فى فكره حلمًا قديمًا «سأجعل الحيوان فى القرآن ضيوفًا على الصفحة». لم تكن المهمة يسيرة أو سهلة فإن تقرأ قصص الحيوان فى القرآن وتستمع إلى دورهم وما فعلوه مع الأنبياء والأولياء، غير أن تجد نفسك تستمع إلى أصواتهم وترى شهادتهم على ما حدث فى دنيانا من معجزات وآثام مرت بها البشرية على مدار تاريخها، وهى مهمة عسيرة لا يقدر عليها إلا من امتلك روحًا شفافه يصل عبرها إلى ما وراء الظاهر ويغوص فى أعماق المعانى التى وضعها الله للإنسان فى صورة حيوان وفى أصلها هى آية من آياته. فى مدينة الزقازيق وداخل منزل صديقه محمود لطفى عبدالوهاب عكف أحمد بهجت على تحقيق حلمه وبدأ فى القراءة والكتابة. اعتمد على قصص القرآن كمرجع فيما يتصل بالجزء الذى يمس الأنبياء من القصة، واستقى معلوماته عن طباع الحيوان وعاداته من موسوعة «المملكة الحيوانية» التى ألفها مجموعة من علماء متحف التاريخ الطبيعى فى أمريكا، وبعض المؤلفات الآخرى، وفيما عدا ذلك من الحكى أطلق العنان لخيال الكاتب. ويروى أحمد بهجت فى مقدمة كتابه «قصص الحيوان فى القرآن» رسوم إيهاب شاكر، والصادر عن دار الشروق، رحلته وخطته فى الكتابة: «حيرتنى البداية.. ربما كان سهلًا أن أتحول إلى كلب أو ذئب.. لكن كيف أصير هدهدًا؟! وكيف أتشكل فى إهاب الحوت الأبيض الهائل الذى ابتلع يونس؟! ثم هبَّت نسائم الرحمة الإلهية فهان كل صعب، وسهل كل عسير، وذابت الأحجار فى قمم الجبال التى عبرها هدهد سليمان أثناء طيرانه وحكت لى قصته، كما ارتدت موجات صوت كلب أهل الكهف رموزًا ليلية عميقة تعيد رواية حكايته، وحدثتنى قوقعة قذفت بها مياه البحر أنها شهدت حفل التسبيح المهيب الذى أقامه يونس فى جوف الحوت، وبقدر ما كانت فترة البحث والقراءة ممتدة وصعبة، كانت الكتابة نهرًا من اليسر والسهولة، وانقدح فى عقلى أثناء الكتابة أن كثيرًا من الحيوان الذى عاصر الأنبياء كان رمزًا عميقًا لقدرة الله أو رحمة الله أو رمزًا لأشياء أخرى عديدة.. كان جسد الحيوان جسدًا لحيوان وإشارة لشيء أخطر». لقد حُكيت قصص الأنبياء فى العديد من الكتب، ولم يكن ممكنًا فى قصص جادة وخطيرة، يتعلق بها خلاص الإنسان وآخرته، أن يلتفت أحد لهذه الأصوات الضعيفة القريبة من الأرض، أصوات الحيوان، أو يتابع مجرى تفكيرها لو كان لتفكيرها مجرى أو يصور لنا دهشتها لو كان ممكنًا أن يدهش الحيوان وهى تعيش مع الأنبياء وتشهد هذه المعجزات أو تكون هى نفسها جزءًا من المعجزات.. وهكذا ظلمت هذه المجموعة من الحيوان وانطفأت سيرتها الخاصة على مدى أربعة عشر قرنًا من الزمان، حتى جاء أحمد بهجت وكتب ما يمكن يُطلق عليه مذكرتها «قلت: أستعير عقولها وغرائزها وأحلامها وأحزانها وأكتب مذكراتها مستهديًا بكلمة الفنان فان جوخ: حين أرسم زهرة، أصير أنا الزهرة». للحيوانات فى فكر أحمد بهجت فلسفة ورؤية وأفكار خاصة، فى القصص سنجد الحيوان ذى الرأى الحكيم، والآخر ذو الطبع الثورى، والمتمرد والمتأمل وغير ذلك من صفات يفرضها السياق الذى يتناول به المؤلف حكايته، وفرضها وجود الإنسان الذى هبط على الأرض فحول السلام العظيم فيها إلى حروب وصراعات لم تتوقف منذ أن بدأها الأخوان قابيل وهابيل ودنسا ترابها بأول دم إنسانى يسفك غدرًا. يأخذنا بهجت فى أولى حكاياته إلى قصة الغراب، شاهد الإثبات الوحيد فى أول جريمة قتل ترتكب على الأرض، ويتركه يروى شهادته على ما حدث فى الأرض بعدما أنجبا آدم وحواء «قابيل وأخته إقليما» ثم «هابيل وأخته ليوثا»، وكيف كان الغراب يرى عين قابيل تلمع بالكراهية وهو ينهال على هابيل ضربًا كلما لعبا معًا، وكيف كان الأب يفصل بين الأخوين، وقلبه ممتلئ بالأحزان من تصرفات قابيل التى تزداد سوءًا كلما زاد عمر ابنه، حتى وقع على مسمعه عبارة: «لن أتزوج ليوثا، سأتزوج إقليما، كانت معى فى بطن واحد، أنا أولى بها.. وأنا خير منه»، مع الكلمات الثلاثة الأخيرة أدرك آدم أن الشيطان يقف بينهم، قالها إبليس عنه، ويلقنها لابنه اليوم ليقولها عن أخيه. على لسان الغراب يأتى السرد «من رأى ما رأيناه واحتمل لا يشيب مهما رأى بعد ذلك، كان يومًا قانى الرعب، تسلل قابيل وهو يشدد ضغطه على فك حمار عثر عليه فى الغابة ومضى باحثًا عن شقيقه الذى استيقظ وفتح عينيه، لكن يد قابيل ارتفعت بالفك العظمى وهوت بسرعة، وفى الضربة الخامسة ارتطمت يد قابيل بطين الحقل، وسكنت حركة هابيل تمامًا، وقفت على شجرة فوق رأس قابيل ونعقت صارخًا: قابيل ماذا فعلت بأخيك. كنت أحمل الغراب الميت فى منقارى لدفنه فى مكان بعيد، كنت أطير وأحسست أن قدرة خفية توجه أجنحتى نحو قابيل، ثم أمرنى أحد الملائكة الكرام: أيها الغراب.. إن الله تبارك وتعالى يبعثك لتُرى ابن آدم كيف يوارى سوأة أخيه». ويعرج بهجت بين قصصه إلى حكاية «ناقة صالح» وما فعله قوم ثمود مع نبى الله حين قالوا له: «أثبِت أنك نبي» بعدما نهاهم أن يعبدوا ما عبد آباؤهم من الأصنام، ودعاهم إلى عبادة الله الخالق المبدع وحده، ليروى على لسان الناقة: «قالوا له أثبِت أنك نبى. إنك تدّعى أنك مبعوث من الله، ونحن نشك فى دعواك، لماذا لا تقدم بينة على دعواك، سأل صالح وصدره ما زال على اتساعه لقومه ماذا تريدون أن أقدم؟ قالوا: قدم بينة على نبوتك.. سألهم: ماذا تريدون؟ قالوا: نريد أمرًا خارقًا آية من الله على نبوتك، هذا الجبل القريب لماذا لا يلد ناقة، لماذا لا تدعو الله أن ينشق الجبل عن ناقة تخرج منه، قال صالح: أخشى لو أجبتكم إلى طلبكم أن تكفروا بهذه الآية بعد حين، أخاف عليكم من عذاب الله لو فعلتم، قالوا: لن نفعل، نعاهدك أن نؤمن بهذه الآية ولا نمسها بسوء، ثم فعلوا ما يفعله الناس مع كل الأنبياء خالفوا عهدهم وذبحونى بعدما أحنوا رءوسهم واعترفوا أن صالحًا مرسل من ربه». بالرغم من شهرة قصة سيدنا يوسف ووضوح تفاصيلها إلا أن أحمد بهجت تناولها من زاوية جديدة جعل فيها من الذئب الراوى العليم الشاهد على مؤامرة أخوة يوسف للتخلص منه: «ذئب يوسف.. هذا اسمى الذى اشتهرت به فى التاريخ، غير أننى أقسم إننى لم أر يوسف هذا فى حياتى قط. لا رأيته ولا أكلته ولا مزقت ثيابه ولا اقتربت منه.. كانوا فريقين واحد يريد قتله، والآخر إلقاءه فى البئر، ورغم انتصار الفريق الثانى فقد استقر الرأى الجماعى على إلصاق التهمة بالذئب، وراحوا جميعًا يتحدثون ماذا يقولون لأبيهم عنه، كيف يصفون له مشهد يوسف بعد أن أكله الذئب.. كيف يقنعون أباهم أن الذئب أكله فعلًا؟! واقترح أحدهم أن يخلعوا قميص يوسف ويلوثوه بدماء شاة يذبحونها ثم يحملون القميص إلى أبيهم ويقولون هذا قميص ابنك الذى أكله الذئب وهو يرتديه، ارتفعت أنَّاتى حزينة شاكية فضحك الرجال وقالوا: كأن الذئب يفهم ما نقول. تشاوروا قليلًا ثم ذبحوا أحد الخراف ولوثوا مخالبى وفمى بدمه، وحملونى مدلى منكس الرأس نحو قريتهم». الكتاب يشير إلى دراسات العلماء فيما يتصل بإدراك الحيوان ولغته، وكيف انقسمت إلى فريقين واحدًا رأى أن الحيوان مجرد من الوعى أو العقل وأنه مجرد آلات ذاتية الحركة، رأى فريق آخر أن الحيوان مهيأ بجميع مميزات البشر العقلية ويعرف هذا الرأى بمذهب التشبيهية الإنسانية. «Anthroponorphism»، فيما أثبتت الدراسات بشكل علمى قاطع على أن للحيوان لغة وثبت بالبرهان أن لكل جماعة من الحيوان أسلوبًا للاتصال والتفاهم، أحيانًا بالصوت أو باللمس أو بالرقص أو بالرائحة أو بالإشارة، موضحًا أن جهد أجيال من العلماء والباحثين هو أمر أثبته القرآن الكريم منذ 14 قرنًا من الزمان، حيث جاء القرآن بنصوص صريحة تثبت أن للحيوان لغته الخاصة، بل وآراؤه الخاصة. استعان أحمد بهجت فى كتابه على نوعين من المراجع، أولها: المراجع الدينية، ومنها قصص الأنبياء فى القرآن، وتفسير القرطبى والمنار، وثانيها: المراجع العلمية ومنها موسوعة «The Animal Kingdom» لسبعة من علماء متحف التاريخ الطبيعى فى أمريكا، ودنيا الحيتان لروى تشابمان أندرو، ودنيا الحشرات لفرديناندلين، عالم الطير فى مصر، د. أحمد محمد عبدالخالق، وسلوك الحيوان، د. أحمد حماد الحسينى، وأضواء على قاع البحر، د. أنور عبدالعليم، الصيد فى أفريقيا فرانك هيبين، الطريق إلى مكة محمد أسد.