بعد ثلاثة شهور من الشد والجذب بين العسكريين والسياسيين فى واشنطن، أعلن الرئيس الأمريكى الاستراتيجية الأمريكية للتعامل مع الواقع فى أفغانستان، والتى تضمنت أربعة محاور رئيسية، هى زيادة عدد القوات الأمريكية ثلاثين ألف جندى على أن يبدأ الانسحاب بعد ثمانية عشر شهرا ويتم ذلك فى نهاية 2011، وكذلك التصدى للقاعدة وهزيمتها هى وحلفائها، ومحاصرة حركة طالبان فى أفغانستانوباكستان، ودعم وتأهيل القوات العسكرية والأمنية فى أفغانستان حتى يتم انسحاب مسئول للقوات الأمريكية. أوضحت الإستراتيجية كذلك أن الآلية الأساسية لتنفيذ هذه المحاور تعتمد على شراكة واسعة مع باكستان، والتى سوف تلعب دورا جوهريا فى تنفيذ هذه الإستراتيجية، والسعى لمحاصرة القاعدة فى ملاذاتها الآمنة خارج المنطقة، وبالتحديد فى اليمن والصومال، من خلال ممارسة ضغوط متزايدة، وإقامة شراكات متينة مع الأطراف الدولية المعنية.. وأن عبء تنفيذها لا يجب أن تتحمله الولاياتالمتحدة وحدها. وبما أنها مجهود وحرب دولية فعلى الحلفاء المشاركة بتقديم التزامات كافية. كما أن من عناصر هذه الآلية كذلك أنه لن تكون هناك شيكات على بياض للسلطات الأفغانية التى يجب أن تتحمل مسئولياتها عن بلدها. وتطرح هذه الإستراتيجية عدداً من المؤشرات ذات الأهمية التى من بينها ما يلى: أن تحديد انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان فى نهاية 2011 يتوافق تقريباً مع توقيت انسحاب القوات الأمريكية من العراق. أن التحديد المسبق للانسحاب لم ينتظر استكشاف تطور الأوضاع العسكرية وتداعيات هذه الإستراتيجية على المواجهة مع القاعدة وطالبان وإمكانية تحقيق النصر عليهما من عدمه.. وهو ما يرجح أن القرار سياسى بالدرجة الأولى ويستهدف عودة القوات الأمريكية التى دفعت بها الإدارة الجمهورية السابقة فى تلك المناطق إلى الوطن مع بداية الحملة الانتخابية الرئاسية، وهو الأمر الذى يمكن أن يزيد من فرص إعادة انتخاب أوباما للرئاسة المقبلة. أن الرئيس الأمريكى لم يستجب لمطالب قائد القوات الأمريكية فى أفغانستان الذى طلب إمداده بأربعين ألف جندى، ويركز على مشاركة الحلفاء والقوات الإضافية للإيحاء بأنها ليست معركة الولاياتالمتحدة وحدها، وهو يقصد فى ذلك مخاطبة الرأى العام الأمريكى بالدرجة الأولى. أن هناك قناعة لدى الإدارة الأمريكية، وخصوصا قائد قواتها فى أفغانستان والذى سبق له تولى مهام قتالية فى العراق بضرورة تطبيق النموذج العراقى فى أفغانستان والحاجة إلى مزيد من القوات لسرعة حسم العمليات العسكرية وتحقيق الانسحاب الآمن فى التوقيت المطلوب. وفى إطار قراءة هذه الإستراتيجية وما طرحته من مؤشرات، فإن هناك عددا من الملاحظات حول فرص نجاحها فى تحقيق الأهداف المرجوة، وما ترتبه من تداعيات سواء فى ميدان العمليات الأفغانى والباكستانى، وكذلك على منطقة الشرق الأوسط بصفة عامة، ومن أهم هذه الملاحظات الآتى: أنه من المؤكد أن تدفع الإدارة الأمريكية القوات العسكرية والأمنية الأفغانية لتولى مسئولياتها بصورة أوسع، بما يخفف العبء عن القوات الأمريكية، ويقلل من فرص تعرضها للمواجهة خلال العمليات، ويحد من حجم الخسائر البشرية بصورة كبيرة. من المرجح أن يتم إعطاء صلاحيات أكبر للموفد الأمريكى لأفغانستان، وبما يتجاوز سلطة الحكومة الأفغانية لمواجهة الفساد المتزايد، ومحاولة كسب ثقة القطاعات الشعبية فى إطار المواجهة مع طالبان. أن العمليات العسكرية سوف تتركز بصورة أساسية على مناطق الحدود الباكستانية الأفغانية، وهو ما يتطلب دورا أوسع لباكستان ويتطلب فى نفس الوقت دعما أمريكياً متزايداً، ومساندة دولية وإقليمية لها، ويحتاج كذلك مساندة من جانب الهند لتخفيف حدة التوتر والاحتقان القائم حالياً لتوفير الفرصة لباكستان للتركيز على مواجهة طالبان والنشاط التطرف فى منطقة الحدود مع أفغانستان. إن الخطر الرئيسى ليس فى عدم تحقيق الاستقرار فى أفغانستان، ولكن فى تهديد استقرار باكستان، وهو ما يهدد الأمن والاستقرار فى المنطقة بأكملها ويقوض الإستراتيجية الأمريكية فى النهاية. إن حجم الانجاز الذى يمكن أن يتحقق فى تنفيذ هذه الإستراتيجية سوف يكون له تأثير كبير على مستقبل الشعبية الانتخابية للرئيس الأمريكى، وهو ما يرجح أن تتفاعل العوامل السياسية مع التطورات العسكرية فى النهاية. أن النموذج العراقى لا يصلح فى مجملة للتطبيق فى أفغانستان، حيث إن القاعدة فى العراق كانت فى خصومة مع شرائح واسعة من المقاومة العراقية وهو ما ساعد على الاختراق الأمريكى ومحاصرة نفوذ القاعدة والتأثير على تماسك فصائل المقاومة، بينما تتحالف القاعدة مع طالبان فى الوقت الذى تسيطر فيه طالبان على معظم المناطق القبلية خارج المدن الرئيسية. أنه من المتوقع أن يواصل تنظيم القاعدة الانحناء للعاصفة مؤقتاً والبحث عن مناطق خارج المنطقة للتخفى فى هذه المرحلة وإعادة الانتشار فى مناطق أخرى لتوفير ملاذات آمنة لقياداته وتدريب وتجنيد خلايا بصورة أوسع، وهو ما يمكن أن يزيد من فرص تهديد المصالح الأمريكية، خصوصا فى الدول التى تتمتع بعلاقات قوية مع الولاياتالمتحدة، وهو ما يعنى المزيد من الالتزامات الأمريكية لمواجهة ذلك، خصوصا فى اليمن والقرن الأفريقى بصفة عامة. أن التركيز الأمريكى على سرعة الانسحاب من أفغانستان سوف تتيح الفرصة لدور أوسع لبعض الدول الإقليمية التى تملك التأثير بصورة أو بأخرى فى الواقع الأفغانى، وخصوصا إيران، وهو ما يرجح أن تشهد الفترة المقبلة مناخاً مواتياً لتفاهمات أمريكية إيرانية، حيث تملك إيران القدرة على التوافق مع بعض الأهداف الأمريكية فى أفغانستانوباكستان. إن هذه الإستراتيجية والتى تحدد ملامح أساسية فى السياسة الخارجية الأمريكية خلال العامين المقبلين تؤكد أن الاهتمام الرئيسى لواشنطن سوف يتركز على أفغانستانوباكستان.. وهو ما يعنى تراجعاً واضحاً للعراق على هذا المستوى، كما أنه من المرجح تبعاً لذلك تراجع حجم الاهتمام الأمريكى للانخراط فى قضايا منطقة الشرق الأوسط بصورة أكثر إيجابية خاصة جهود التسوية الفلسطينية الإسرائيلية. وفى اعتقادى أن واشنطن التى تحتاج لمساندة إيرانية فى أفغانستان، سوف تواصل تحركها فى نفس الوقت بصورة هادئة للتأثير على أوراق المساومة التى تمتلكها إيران فى المنطقة، من خلال وسائل سياسية واقتصادية مع تراجع للخيار العسكرى بصورة كبيرة. الأمر الذى من المرجح أن يترك تداعياته على قضايا المنطقة التى تشهد نوعا من الامتداد الإيرانى داخلها، كما أنه من المرجح تبعا لذلك عدم ممارسة ضغوط أكبر على إسرائيل للتوصل إلى تقدم فى مجال التسوية لتحييد اللوبى الصهيونى داخل الولاياتالمتحدة، حتى لا يتم التشويش على محور الحركة الرئيسى خلال المرحلة المقبلة فى أفغانستان.