كل المتابعين والمهتمين بالموسيقى والغناء فى مصر يشعرون بأن هناك أزمة حقيقية نعيشها، لكن وسط تلك الأزمات وحالة التدهور.. تظهر بين الحين والآخر، تجارب غنائية تشعرنا أن هناك فنانين مازالوا قادرين على صنع أحداث تجعلنا نقول إن المغنى لسه بخير.. لكن الحدث الذى نحن بصدده سوف يجعلنا نردد أن مصر لسه بخير. لأنها قادرة على «لم الشمل».. وأن ما يقال عن وجود فتنة ما هو إلا تخاريف. ففى الاحتفالية التى أقيمت بالمسرح الكبير بدار الأوبرا مساء الثلاثاء الماضى تجسد هذا المعنى. العنوان الرئيسى للحدث هو الموسيقى الروحانية مصر ألمانيا وتقوم الفكرة على تقديم الموسيقية الدينية المصرية بشقيها الإسلامى، والمسيحى من خلال جسد واحد هو الفرقة الموسيقية. على اعتبار أن جذورهما واحدة وهى الموسيقية المصرية القديمة، وهذا ما اكتشفه الفريق المصرى الألمانى الذى صاحب المنشدين، والمرنمين. إذن فالحفل تقوم فكرته على دمج الإنشاد الدينى من ابتهالات وأدعية، وأغانى مع الترانيم القبطية. بدأ الحفل بابتهالات للشيخ محمد الهلباوى أحد أهم من يقدمون هذا اللون الغنائى، وهو يتمتع بشهرة عالمية كبيرة، ويمتلك بطانة من المنشدين قادرين على إحداث شحنة روحانية تقشعر لها الأبدان، كما ضم الحفل المرنم الشهير ماهر فايز، وهو يمثل حالة غنائية قبطية متكاملة يشعر معها المسلمون والمسيحيون على السواء بحالة روحانية فريدة. وربما يعود السبب فى ذلك إلى أنه يختار كلمات فى حب الله، وبالتالى فأى إنسان من الممكن أن يتفاعل معها. فى هذه الاحتفالية شارك المنشد، والمبتهل إلى الله الشاب على الهلباوى، وهو يمثل الامتداد الطبيعى لوالده الشيخ محمد الهلباوى، وهى ثانى تجربة له فى هذا الإطار حيث سبق، وقدم مع ماهر فايز، وفريق الكاروز بمشاركة العازفين الألمان نفس الشكل بمدرسة دى لاسال بالفجالة. وهو الحفل الذى جعل أصواتا كثيرة تطالب بتكرار التجربة بشكل أكثر احترافية، وبالفعل تبنت الأوبرا المصرية هذه الفكرة بحماس شديد من الدكتور عبدالمنعم كامل، وأعتقد أن عبارة «كامل العدد» التى وضعتها الأوبرا قبل الحفل بأيام، واضطرارها لوضع مقاعد إضافية يعد نجاحا لهذا الرجل. وزاد من أهمية هذا الحفل وجود عازفين عالميين هم الألمانى مايتلس فراى وهو عازف بيانو قدير، وله العديد من الألبومات الموسيقية، ووضع الموسيقى التصويرية لعشرات من الأفلام فى أوروبا، حصل عنها على العديد من الجوائز الدولية، والعازف الثانى هو بودى سيبرت على الساكسفون ومن مصر باسم درويش عازف العود، وصاحب الفكرة، وحسام شاكر على القانون. وهؤلاء الأربعة يمثلون العمود الفقرى للتجربة. وكان ضيف الشرف المطرب الكبير على الحجار الذى قدم أغنيته الشهيرة «صلينا الفجر فين» وأعتقد أن مشاركته أعطت للاحتفالية توهجا إعلاميا باعتباره نجما كبيرا. والجميل أن الحجار وافق على المشاركة بمجرد أن استمع للفكرة ووجوده كفنان كبير زاد من صلابة، وقوة الفكرة. ما بعد التجربة وانتهاء الحفل يعكس حالة النجاح حيث صعد السفير الألمانى بالقاهرة ميخائيل بوك، والدكتور عبدالمنعم كامل لخشبة المصرح، وقاموا بإهداء الورود لأصحاب هذه التجربة الفريدة. كما اجتمع بهم كامل وطالب بتكرارها خلال العام المقبل بالقاهرة، والإسكندرية بعد أن تفاعل معها الجمهور إلى جانب ارتفاع المستوى الفنى للحدث. كما طالب السفير الألمانى بضرورة أن تنتقل التجربة إلى ألمانيا، وأسند «لبودى سيبرت» عازف الساكسفون مهمة التنسيق مع دور الأوبرا فى ألمانيا، وهذه خطوة مهمة لكى نقدم للعالم موسيقانا الروحية خاصة أنها سوف تثبت للعالم الغربى تحديدا حالة التوحد التى نعيشها فى مصر، ويزيد من مصداقية الأمر وجود عازفين ألمانيين شاهدوا وعاشوا الحكاية من البداية، وبالتالى سيكون لذلك تأثير، خاصة أن أوروبا دائما تثق فى شهادات أبنائها، وعلى رأسهم السفير الألمانى الذى تحمس للفكرة، خاصة أنها جاءت بعد تأجيل زيارة أوركسترا دريسدن. وقد أكد الحفل أن هناك تجارب موسيقية نستطيع أن نلتف حولها. لأننا دخلنا فى عصر جديد لن تكون للأغنية التقليدية تأثير كبير، فالتأثير سيكون للتجارب، والأفكار التى تنفذها المجموعة، بعيدا عن اللغة الفردية، وأعتقد أن نجاح حفل الملك محمد منير، والشاب خالد الشهر الماضى يمثل تلك الحالة. وبالتالى فالمطرب الأوحد، والموسيقى الفرد ما لم يكن له نفوذ فنى، وموهبة كبيرة لن يمنحه الجمهور تأشيرة الاستمرار كمطرب. نجاح هذا الحفل يدعونا لطرح فكرة سبق وطرحناها منذ سنوات وهى ضرورة إنشاء مهرجان للموسيقى الدينية، نجمع فيه كل الفرق، والمنشدين على مستوى العالم. لكى يلتقوا فى أرض الحضارات مصر.