الجميع متهم فى الرواية لكنهم ينجحون فى إقناع أنفسهم بالعكس ولا يعترفون بأخطائهم.. يقول المثل الشعبى العتيق: «الكتاب يبان من عنوانه»، حسنا، هذا لا ينطبق على رواية «طبيب أرياف»، أحدث روايات الكاتب الكبير الدكتور محمد المنسى قنديل، والصادرة مؤخرا عن دار الشروق، حيث إنها تبدو للوهلة الأولى رواية عن مغامرات طبيب فى الأرياف، ما سيدفع الأذهان لتصور نمطية الأحداث وسيرها وشخوصها، إلى جانب تقديم تصور لعالم الريف بمفرداته وأسلوب حياته وعالمه الخاص، إلا أنها، بالإضافة إلى كل ذلك، تحمل ما هو أعمق وأنضج من هذه التصورات السطحية، إنها رواية عن الإنسان المثقل بالهموم والخطايا، المذنب والمتهم والضحية فى آن واحد، الغارق فى اليأس والمتشبث بالأمل الواهى، المريض جسدا وروحا سواء بما قدمت يداه أو أيدى الآخرين. نقرأ أحداث رواية «طبيب أرياف» بعيون الدكتور «علي»، الطبيب المنقول إلى الوحدة الصحية فى إحدى قرى صعيد مصر، ورغم وضوح الإشارات إلى زمن وقوع الأحداث نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن العشرين إلا أن أحلام الشخصيات ومعاناتها وآلامها يمكن أن تناسب أى زمن آخر. بين كل شخصيات الرواية كان الطبيب هو الوحيد المحمل بالذنب طوال الوقت، يعانى من صدمات عدة أبرزها وأخطرها صدمة المعتقل الذى خرج منه إلى القرية بندوب فى جسده وروحه، فاقدا الثقة فى أقرب الناس إليه وباحثا عن بداية جديدة. يأسف ويتأسف للجميع، فى حين أن كل من حوله مصابون باللا مبالاة تارة واليأس تارة أخرى، لم يتبرأ من أخطائه ولحظات ضعفه ولم يعلقها على شماعة أخرى سوى نفسه، بل إن لديه بصيص شجاعة لتحمل نتيجة أفعاله، بينما يختفى ذلك البصيص وتحل محله أكوام من الجُبن فى مواجهات تشعل جذوة صدمته النفسية جراء امتهان كرامته وإنسانيته فى المعتقل، فيلتصق بالحائط خوفا ولا يجسر على التحرك، كما فعل حرفيا أمام مسدس المأمور فى أحد فصول الرواية. الجميع متهم فى الرواية بشتى الاتهامات، لكنهم ينجحون فى إقناع أنفسهم بالعكس، دون الاعتراف بأخطائهم. بدءا من محروس عامل مكافحة البلهارسيا وصديق الرئيس جمال عبدالناصر شخصيا ومرافقه فى حرب فلسطين وحصار الفلوجة، العامل الذى يحظى بمزايا رهيبة نتيجة صداقته مع الرئيس، والمتهم فى الوقت نفسه باستخدام سموم القضاء على قواقع البلهارسيا فى صيد السمك وبيعه بدلا من استخدامها فى التخلص من تلك القواقع والقضاء على هذا المرض الملعون. يراها محروس تهمة فى غير محلها، فمن غير المنطقى أن يبيع سمكا مسمما، كما أنه لن يقف وحده فى مواجهة شطآن الترع والمصارف بل ويعزى ذلك كله إلى اكتشافه فساد كل شيء، فلماذا يحمل هو ذنب كل شيء؟ ومن محروس إلى الممرضة فرح، ضحية البيئة التى تربت فيها ونجحت أن تكمل تعليمها إلى مرحلة ما، لتتزوج ابن عمها المكتوب لها رغم تفوقها عليه علميا وعمليا من قبل حتى أن تولد كما تنص الأعراف، وتمضى بها الحياة حتى يتقاطع طريقها مع الطبيب، وتحمل بذرة هذا التلاقى التدريجى والقرب المتعمد داخلها ملقية اللوم كله عليه فى النهاية دون أن تعترف بتهمتها أو تواجه نفسها بها، كما يفعل الطبيب دوما. أما شخصية المأمور فهى شخصية ثرية ذات جوانب متعددة كشفت عن مزيج من الصفات والسمات، فهو جبان ومعتد بنفسه، يزهو بسلطته ويتلذذ بفرضها على من هم أقل منه سلطة، شأنه فى ذلك شأن الطبيب الذى لم يقدر على أى مواجهة سوى أمام من هم أضعف منه حيلة (موظفو مديرية الصحة وعيسى زوج فرح). الحقيقة أن جميع من فى الرواية كانوا أقل من المأمور سلطة حتى من يبدو أنه أعلى، مثل قاضى لجنة الانتخابات/ الاستفتاء، بل إن الظهور الأول للمأمور كان يحمل صخبا يليق بشخصية مثله ربما يعتقد البعض أنها كاريكاتيرية، ومثله مثل الجميع، يبرر أفعاله لنفسه قبل تبريرها للطبيب ملقيا اللوم على الآخرين ومشيرا بأصابع الاتهام لأى شخص آخر عداه هو الذى يحافظ على الأمن فى القرية. فى «طبيب أرياف» هناك عالمان تنقلت الأحداث بينهما، أحدهما واقعى للغاية والآخر ينتمى إلى جو الأساطير، ينتهى العالم الواقعى مع النصف الأول من الأحداث وحتى ظهور الغجر وكبيرتهم «الجازية» ذات الشخصية الكاسحة والحكمة البالغة، ليبدأ النصف الثانى الساحر الأسطورى مع حكايات السيرة الهلالية التى ترويها الجازية للفلاحين بأداء مبهر يغرقون فيه وينسون واقعهم المرير، بل يغرق فيه القارئ مسحوبا خارج أراضى الرواية مستفيقا فقط على صوت نقرات الطبلة قبل أن يعاود الغوص فيه، ثم رحلة الصحراء المرعبة لإنقاذ المهاجرين إلى ليبيا من الضياع عبر بحر الرمال المتحركة والصحراء البيضاء وما تحمله من حيوانات ضارية وضباع، فى حملة ترأسها المأمور قائدا مع الطبيب مسعفا ومنقذا والجازية دليلا لا يشق لها غبار. حتى إقامة الانتخابات/ الاستفتاء على الرئيس الجديد خليفة الرئيس المُغتال غدرا دارت فى أجواء واقعية سحرية عجيبة داخل الوحدة الصحية بتكليف من المأمور ومارس فيها الطبيب انتقاما خفيفا سرعان ما انقلب عليه فى النهاية. لم أكن أحب أن تنتهى الأحداث، كلما غصت فيها كلما وددت لو كان هناك أكثر، الأسلوب الأدبى الرفيع غير المتكلف السلس المترابط، الحكايات المروية بعذوبة رغم كل ما يعتريها من ألم كبير وبهجة شحيحة، الشخصيات المرسومة بدقة حتى تكاد تراها أمامك، كلها عوامل جذبتنى إلى أعماق الرواية لأعيش على مدار أيام متواصلة وقراءات متقطعة فى عالم ساحر صاغه محمد المنسى قنديل خلال عزلة مرض الكورونا، يختزل داخله العالم الأكبر بما يحمله من حب ورغبة وجنون وأمل ويأس وضعف، يختزل داخله الإنسان بكل شطحاته وكل كبواته وأمراضه ومخاوفه، ويمرره لنا من خلال عيون «طبيب أرياف».