فى ظل اهتمامنا بتحقيق أعلى معدل للنمو الاقتصادى سيظل الأمن الغذائى المصرى حائرا بين رؤية الاقتصاديين والزراعيين. ففى حين يرى الاقتصاديون أن السلع الغذائية مجرد سلع شأنها شأن غيرها من السلع الصناعية والتجارية، يجب الحصول عليها بأقل سعر، ويستوى فى ذلك إنتاجها من الزراعة المحلية أو استيرادها من الأسواق العالمية، فإن خبراء الزراعة يرون أن الأمن الغذائى للدولة جزء من أمنها القومى، وأن النظرة الاقتصادية فى إنتاج الغذاء يجب أن تتنحى جانبا أمام الأثر الاجتماعى لعدم توافر الغذاء أو ارتفاع أسعاره، وما يتبعه من نتائج بالغة الخطورة يمكن أن تستنزف جميع عائدات النمو الاقتصادى، وهو ما حدث فى أزمة الغذاء العالمية القريبة التى ارتفعت معها مخصصات دعم الغذاء فى مصر من 6 إلى 22 مليار جنيه مصرى فى عام واحد. وليت الأمر يتوقف عند هذا الحد، بل يمكن أيضا تفنيد رؤية الاقتصاديين بأن «من يتوافر معه المال يمكن أن يشترى الغذاء من أكثر من سوق وبأفضلية عالية»، لأنهم يتناسون أن أكثر من أربعين دولة قامت فى العام الماضى بحظر تصدير الغذاء، منها دولة تعاقدنا معها على شراء 2 مليون طن من القمح، ثم تراجعت عن هذا التعاقد تنفيذا للحظر، بما كاد أن يتسبب فى أزمة كبيرة لولا المساعى العاجلة فى الاتصال بدول أخرى لاستيراد عاجل للقمح، الأمر الذى سمح بدخول أصناف من القمح لم يكن ليسمح لها بالدخول من قبل. ويرى الزراعيون إضافة إلى ما سبق أن الاعتماد على استيراد الغذاء بدلا من زراعته وتشجيع ودعم إنتاجه محليا قد يعرض اقتصادنا النامى إلى مضاربات البورصات، بما يؤدى إليه من ارتفاعات غير مبررة فى أسعار الغذاء كما حدث فى الأزمة العالمية الماضية، إضافة إلى التخطيط الدائم للدول المنتجة للغذاء والتنسيق فيما بينها للحفاظ على أسعاره مرتفعة، مثلما حدث فى عام 2006 حينما اتفقت الولاياتالمتحدة وروسيا وأوكرانيا وفرنسا على خفض المساحات المزروعة بالقمح بمقدار 200 مليون فدان، لتعود الأسعار للارتفاع، سواء بالنسبة للقمح أو باقى الحبوب، وكانت النتيجة ارتفاع أسعار الحبوب بنسب وصلت إلى 300%. ومع ذلك فقد زادت نسبة المبيعات منها ب85% رغم ارتفاع الأسعار، نتيجة للهلع الذى أصاب الدول المستوردة من شبح عدم توافر الحبوب مستقبلا بما يهدد استقرارها الاجتماعى. فإذا أضفنا إلى ذلك التوقعات بزيادة أسعار البترول خلال الأشهر الثلاثة المتبقية من عام 2009 إلى 90 دولارا للبرميل، وما يتبعه من زيادة فى أسعار الغذاء وكذا فى تكاليف النقل البحرى والبرى، إضافة إلى ما يتبع ارتفاع أسعار البترول من التوسع فى إنتاج الوقود الحيوى من السلع الغذائية، خاصة من حاصلات القمح والشعير والذرة والسكر وزيوت الطعام، فإن هذا الأمر يستحق المراجعة والتأمل، خاصة فى ظل ما أعلنته الدول الأوروبية من عزمها على التوسع فى زراعات الأصناف الرخيصة من القمح والصالحة لإنتاج الإيثانول الحيوى وغير الصالحة لإنتاج الخبز وأن هذا التوسع سيكون على حساب مساحات قمح الخبز بما سيؤدى إلى نقص المعروض منه فى الأسواق العالمية وارتفاع أسعاره. ومن جهة أخرى هناك توقعات بأن تؤثر تغيرات المناخ على نقص إنتاجية العديد من الحاصلات الزراعية، وحتى إن كانت هذه التقديرات محل شك حتى الآن إلا أن بعضها صار حقيقة واقعة مثل تكرار حدوث نوبات الجفاف أو الفيضانات المدمرة والكوارث الطبيعية التى زاد عدد مرات حدوثها، والتى تؤثر على أسعار الغذاء نتيجة لزيادة الطلب عليه من قبل الدول المتضررة. لذلك فإن الأخذ برؤية الاقتصاديين فقط فى الأمور الزراعية يمكن أن يؤدى مثلا إلى عدم زراعة الأرز فى مصر بسبب استنزافه لمياهنا المحدودة، ولأن عائد المتر المكعب من المياه فى زراعته لا يتجاوز 15 قرشا، فى حين يقترب من جنيهين فى زراعات الطماطم والقمح. ولكن رؤية الزراعيين تقول بضرورة زراعة الأرز فى أراضى وسط وشمال الدلتا كخط دفاع وحيد ضد اقتحام مياه البحر المتوسط المالحة لأراضى الدلتا ومياهها الجوفية. وبالمثل أيضا يرى الاقتصاديون ضرورة إحلال قصب السكر بالبنجر لتوفير قدر من مياه الرى، فى حين يؤكد الزراعيون عدم صلاحية البنجر للنمو فى أراضى قصب السكر فى صعيد مصر الحار لأنه من حاصلات المناطق الباردة كما أن الفدان الواحد من قصب السكر يعطى ثلاثة أضعاف كمية السكر التى ينتجها فدان البنجر، وبالتالى فكل فدان من قصب السكر يجب إحلاله بثلاثة أفدنة من البنجر، للحصول على نفس الكمية، ونحن لا نمتلك وفرة من الأرض الزراعية لهذا الإحلال، هذا فضلا عن الصناعات الأخرى القائمة على زراعة القصب وما تستوعبه من عمالة مثل تصنيع العسل الأسود والمولاس وكحول الإيثايل والسكر البنى، بالإضافة لأنشطة أخرى مرتبطة بقصب السكر لا يوفرها البنجر، مثل محال العصير والمخلفات العضوية الخصبة، بما يزيد من القيمة المضافة لزراعة القصب، الذى تملك مصر فى زراعته خبرات متوارثة جعلتها الدولة الأولى عالميا فى متوسط إنتاجية الفدان. فإذا تعلق الأمر بالقمح ورغيف الخبز، مع أهميته القصوى للعامة فى مصر، فيجب أن تسود رؤية الزراعيين، ولا يجب أن تهمل زراعة هذا المحصول مهما انخفضت أسعاره فى الخارج لأن أمن القمح والرغيف جزء من الأمن الاجتماعى، ورعاية المزارعين وتعويضهم عن أى خسارة متوقعة يجب أن تؤخذ فى الحسبان لتأمين الغذاء من جانب، ولدعم زراعتهم وتشجيعها وتعويضهم عن انخفاض أسعار منتجاتهم نتيجة لأزمة الركود الاقتصادى الحالى. فى النهاية بقى أن نشير إلى أن دول الوفرة الزراعية المصدرة للغذاء لا تنتج الغذاء لحسابات الربح والخسارة فقط، ولكن لبسط النفوذ على البلدان المستوردة للغذاء أو البلدان التى تحصل عليه كمعونات، بل والأخطر من ذلك أن بلدان الوفرة الزراعية التى تمتلك مساحات كبيرة من الأراضى تفوق احتياجاتها لم تفكر أبدا فى إحلال الصناعة محل الزراعة أو البناء على الأراضى الزراعية مثلما تفعل الدول محدودة الموارد الزراعية.