فاجأ فوز أوباما بجائزة نوبل كل من سمع الخبر بمن فيهم الفائز بها، والذى بدا فرحا مدهوشا فى آن واحد، كابن فاجأه أبوه بهدية غالية كان يطمح للحصول عليها «بعد» أن يحصل على أعلى الدرجات، فإذا بها تهدى إليه قبل أن يفعل شيئا. هو فقط أعلن عن نيته الطيبة وبدا وجهه صادقا وقتها، وكانت نبرات صوته مفعمة بالحماس ونمت ملامحه عن منتهى النبل، وزاد من حماسه ذلك التجاوب العارم من جماهير بلاده ومن جماهير العالم، التى أعلنت أن أوباما هو ليمونة العالم القرفان، ورجله المنتظر، والذى يمتلك شفرة (Password) الجماهير التى زفت فتاها إلى المكتب البيضاوى، والشفاه تلهج بالثناء والقلوب تهتف بالدعاء: «يوفقك الله يا ابن السود والبيض، والمسلمين والبروتستانت، وأغنى القارات وأقواها وأفقر القارات وأضعفها!! لعله على يديك تشفى البشرية من بطش الظالم والمفترى فيقوى الضعفاء ويغتنى الفقراء». بينما الفتى الأسمر يفتح ذراعيه للكون محتضنا آماله وأمانيه، كمن له فى الكواليس كهنة السياسات والمصالح الكبرى، الذين انتظروا نهاية ليلة الفرح، بصبر نافذ، حتى يمارسوا احتواءهم للفتى المنتظر، ويشدونه فى طريقهم نحو إحكام الهيمنة، تاركين للجماهير الحلم بمستقبل الرفاهية والسلام والعدالة. فمن المبادئ الأساسية للنظام السياسى الأمريكى أن تعيش الجماهير وهم النسق السياسى الديمقراطى المفتوح على مصراعيه لكل موهوب ومحبوب! والعارفين ببواطن الأمور كانوا من التشاؤم بحيث كانوا يتراهنون على كم الوقت، الذى سيمر قبل أن تلف ماكينة الإدارة الأمريكية أذرعها اللعينة حول الفتى الرشيق، لتغيبه فى الدهاليز المعقدة للصفوات الثلاث، التى تحكم المجتمع الأمريكى. فالصفوة السياسية التى يطوقها اللوبى الصهيونى تتضامن وتتضافر مع الصفوة العسكرية، التى تعيش أحلام الهيمنة على الشرق المشتعل بالصراعات الأهلية والعرقية، وخطر تنامى الآلة العسكرية الصهيونية، وتظلل على الجميع صفوة رؤساء مجالس إدارة الشركات العملاقة متعددة الجنسية، التى قفزت إلى بترول العراق على أشلاء مئات الآلاف من الضحايا الأبرياء من العراقيين. وقد بدأ هؤلاء يكشفون للفتى الطيب عن نواياهم فى إبقاء الأوضاع السيئة على ما هى عليه فى الأرض المحتلة بالتوسع فى إقامة المستوطنات، فى الوقت الذى كان الفتى ينادى فيه بتجميد المستوطنات، ريثما يقدم قراءة أكثر عدالة للموقف المشتعل فى فلسطين.. بينما يمد الفتى يده لإيران التى داعبها الأمل فى تفاهم مع الولاياتالمتحدة يذيب سنوات الجفاء الذى أفادت منه إسرائيل أيما إفادة، تشتعل ساحات أفغانستان وتتفاقم صراعات طالبان ويضيع المدنيون تحت سنابك العسكريين. إن من يقرأ فى موضوع (دور الفرد فى صناعة التاريخ) يعرف أن الأبطال والزعماء يؤثرون فى حركة الأحداث، ليس فقط بالنوايا الطيبة وما يمتلكون من القوة والكاريزما الشخصية وحب الناس والتفافهم حولهم، وإنما يتم ذلك أساسا بشروط تاريخية وصياغة معقدة لمسرح الأحداث، بحيث لا تبدو للأعين فى النهاية إلا قمة جبل الثلج الذى تتجه كاميرات التاريخ إلى أعلاها لتسجل مواقف الزعماء، وخطب الرؤساء، وهم يضعون بصمتهم على خاتمة الأحداث السياسية. ولا شك أن أعضاء لجنة جائزة نوبل كانوا يتصفون بتلك الحصافة، التى جعلتهم يتمتعون بما يطلق عليه علماء الاجتماع «الخيال الاجتماعى»، الذى مكنهم من فهم مبكر لتطور الأحداث السياسية، ولأنهم فى هذه اللحظة بالذات كانوا يمثلون آمال الجماهير، التى توشك أن تصطدم بالجدار الفاصل بين الحلم والواقع، فأرادوا أن يبلغوا «العزيز» الذى دفعته أقداره إلى لعب دور البطل التراجيدى فى أهم ملحمة فى تاريخ العالم الحديث رسالتهم، لأن أوباما ينتمى أصلا إلى تلك الجماهير التى ترى أنه: إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر والآن تدخل تلك اللجنة التاريخ من باب آخر كان لابد له أن يفتح.. فهى تسجل موقفا نبيلا تعرب فيه عن توجهها الإنسانى إلى جانب ما تمارسه من دور مهم فى دفع العلماء والأدباء إلى بذل أقصى طاقتهم وموهبتهم لإسعاد البشرية. وفى ظنى أن الجنية الساحرة التى دفعت بالسندريللا إلى سدة الحكم لأكبر دولة فى العالم، لم ينته دورها تماما عندما تمكنت السندريللا من البيت الأبيض، لأنها تعلم أن الفتاة الطيبة المنتمية للبسطاء سرعان ما ستنتمى إلى صفوة الحكام وعالمهم المعقد الغامض، وقد تصبح منهم فيتغير الوعى ويتغير الانتماء، ويكون على البسطاء أن يتذكروا بعد حين أن سندريللا كانت واحدة منهم عندما كانت «تعيش» بينهم بالفعل لا بعد أن غادرتهم إلى «عليين». ولم يعد من سبيل إلى الجنية الطيبة لتتصل بسندريللا بعد أن أوصدت أبواب القصر من دونها، إلا أن ترسل لها رسالة استدعاء إلى خارج القصر/القلعة لتهمس فى أذنها «بنصيحتها» التى لم تتح لها الأحداث أن تبلغها بها. لم يكن هناك خير من فريق اللجنة المانحة للجائزة، والذين كان عليهم أن يضعوا الرسالة السرية فى طيات أوراق الجائزة، التى سيفهم «أوباما» فقط شفرتها التى تقول: «يا من صعدت إلى هناك بقوة دفع حبنا لك وآمالنا فيك.. إليك هديتنا المبكرة والتى نثق أنك سوف تستحقها إن تذكرت.. ووعيت.. وقررت.. واخترت الأجمل وطريقه الأصعب.. فقوتك مصدرها هؤلاء الضعفاء الأقوياء الباقون أبدا.. والسلطة مهما طالت إلى زوال.. والتاريخ ينسى الحكام والرؤساء ولا يتذكر إلا الزعماء والأبطال.. فلا تنسى...لا تنسى!!» توقيع مارتن لوثر كينج