ما التغيير الذى يمكن أن يحدث خلال نصف عام؟ فى أوائل أبريل، خيمت سحب قاتمة على العالم كله.. كان الخوف من الكساد حقيقيا. وكان صانعو السياسة يبتكرون أساليب غير تقليدية لضخ الحياة فى اقتصاد عالمى يحتضر. والآن، عاود العالم النمو مرة أخرى، وفاجأت البيانات الاقتصادية خلال الصيف الجميع تقريبا بحجم ثباتها، وبدأ الحديث عن ضمان ألا تكرر السياسة أخطاء الماضى. وفى الشهر الماضى، عبر الرئيس الأمريكى باراك أوباما عن هذا المزاج خلال قمة مجموعة العشرين الشهر الماضى فى بطرسبورج، قائلا: «أدى التحرك الجرئ والمنسق، الذى قمنا به إلى إنقاذ وخلق ملايين الوظائف، وتم وقف التراجع فى حجم الإنتاج، وعادت أسواق المال إلى الحياة، كما منعنا امتداد الأزمة أكثر إلى العالم النامى». واتفق قادة القمة الآخرين مع هذا. وقال بيان المجموعة قبل أن يعدد المشكلات الكثيرة المتبقية «تقوم مؤسساتنا المالية بتدبير رأس المال المطلوب، وأسواق المال تبدى استعدادها للاستثمار والإقراض، وتحسنت الثقة». ولقيت عودة التفاؤل عقب الكساد المرير، وهو الانكماش العالمى الأعمق منذ الحرب العالمية الثانية ترحيب الاقتصاديين بقدر ما كانت مفاجئة لهم. ويقول مايكل سوندرز من مؤسسة سيتى جروب: «نحن مستمرون فى رفع توقعاتنا للنمو أكثر من تخفيضها، وهو ما يعكس مزيجا من تحسن الأوضاع المالية، وتغير دورة المخزون، والتحفيز المالى والنقدى، فضلا عن علامات التحسن الملحوظ فى الاستطلاعات الأخيرة، والمكاسب فى بيانات النشاط الاقتصادى»، وهو يتوقع الآن أنه من بين الاقتصادات المتقدمة، فقط إسبانيا وأيرلندا وإيطاليا ستظل فى حالة ركود خلال الربع الثالث من العام. أما التوقعات بالنسبة للاقتصادات الناشئة إجمالا فهى أكثر تألقا، بتسجيل الصين معدل نمو بلغ ثمانية بالمائة خلال النصف الأول من عام 2009. وعلى الرغم من أن بعض الأسواق الناشئة ما زالت تكافح خاصة فى وسط وشرق أوروبا وأفريقيا فقد أظهرت عودة النمو مرة أخرى فى آسيا وأمريكا اللاتينية، أن هذه المناطق تقود الغرب للخروج الكساد. ويتوقع بيتر بيريزين وأليكس كيلستون من مؤسسة جولدمان ساكس، أن ينمو الاقتصاد فى الأسواق الناشئة بنسبة 7.3 فى المائة عام 2010 بعدما سجلت معدلا بلغ 2.8 فى المائة عام 2009. ويقولان إنه بشكل عام ،فإن قوة العوامل الاقتصادية الأساسية لهذه البلدان أتاحت لها مواجهة الصدمة بشكل أفضل مما كان متوقعا». ويرجع جزء من السبب وراء هذا الأداء القوى غير المتوقع للاقتصاد العالمى إلى السياسات غير العادية، التى اتخذتها الحكومات والبنوك المركزية، غير أن دورة المخزون تلعب دورا هى الأخرى. ففى العام الماضى، عندما ترددت أصداء انهيار بنك ليمان براذرز فى أرجاء العالم، توقف الأفراد والشركات عن شراء السلع الكبيرة، تاركين المصنعين يتخبطون بمخزوناتهم غير المبيعة. وتوقف الإنتاج. وتراجعت التجارة العالمية. غير أن ذلك لم يكن سوى كارثة مؤقتة. وأتاح استئناف الشراء، وإن كان بمستوى أقل، للشركات أن تبدأ فى تخفيض مخزوناتها، وتعيد تشغيل خطوط الإنتاج، وهو ما عزز النمو. ويقول إيثان هاريس من بنك أوف أمريكا، إن هذا التغير فى دورة المخزون يمكن أن يستمر لبعض الوقت، فيعجل بطفرة الانتعاش بقدر ماأوقف التراجع. ويضيف: «إذا توقف فحسب هبوط المخزونات خلال العام المقبل، فإن ذلك سيضيف 1.3 فى المائة إلى النمو الأمريكى». لقد بدأ الحديث عن «استراتيجيات الخروج» من السياسات الاستثنائية المالية والنقدية. ولكن الحديث فى الدوائر الرسمية، ما زال مجردا ونظريا حتى الآن. فكيف تضمن السلطات التغيير السلس للسياسة نحو الاتجاه العكسى فى المستقبل.. وكيف تتعاون البلدان المختلفة لضمان ألا يقوض تحرك تقوم به إحداها الانتعاش فى مكان آخر.. وكيف يمكن أن يولّد العالم نموا قويا ومستداما؟ ولكن ما زال ينقص كل هذه الأسئلة كلها موعد للتنفيذ. وأهم محدد لذلك هو ما استخدمه قادة مجموعة العشرين بأن إعطاء العلاج بالمنشطات والمحفزات سوف يستمر «لحين تأمين انتعاش دائم». وعلى الرغم من أن علامات أولية تظهر على أن البنوك المركزية تتراجع مخففة دعمها لقطاع الخدمات المالية، فليست هناك دلائل على أن صانعى السياسات بدأوا فى تقييد السياسة النقدية حتى الآن سواء فى الحد من ضخ المال فى اقتصادات مثل الاقتصاد الأمريكى، أو الاقتصاد البريطانى، أو برفع أسعار الفائدة. وقد اعترف بن بيرنانكى، رئيس مجلس الاحتياطى الفيدرالى، مؤخرا بأن « الركود انتهى على الأرجح»، لكنه أضاف بسرعة: «لكن سيظل الأمر يبدو لبعض الوقت وكأن الاقتصاد ضعيف للغاية». وردد جان كلود تريشيه رئيس البنك المركز الأوروبى نفس النغمة قائلا إنه «سوف يكون من السابق لأوانه إعلان انتهاء الأزمة فالآن ليس الوقت المناسب للخروج». وفى الصيف، قال ميرفين كينج محافظ بنك أوف انجلاند، إن عدم حماسه للانتعاش ناجم عن الدرجة الهائلة من الطاقة غير المستغلة فى الاقتصاد، والتى تترك مستويات الإنتاج، والعمالة، والإيرادات الضريبية، والثروة أقل بكثير مما كان متوقعا قبل الأزمة. وقال السيد كينج للصحفيين فى أغسطس «إنها المستويات ياغبى. ما يهم هنا ليس معدلات النمو، وإنما مستويات الاقتصاد». ويمكن أن نرى فى توقعات صندوق النقد الدولى المتتالية إلى أى مدى عجز مستوى النمو عن مواكبة التوقعات. فإذا كان حجم الإنتاج سار كما ما توقعه الصندوق فى صيف 2007، ربما كان العالم فى طريقه لإنتاج سلع وخدمات فى عام 2010 تزيد بنسبة عشرة فى المائة عما يعتبره الصندوق محتملا الآن. ومن المحتمل أن تظل السياسة الحكومية توسعية للغاية إلى أن يبدأ مستوى الإنتاج فى مواكبة المسار المطلوب. وتتوازى أوجه القلق بشأن ضمان انتعاش دائم، مع تخوفين بشأن شكل أى انتعاش مستقبلى: الأول، هو أن اقتصاد العالم يتعافى، لكنه يعود إلى أساليبه القديمة، حيث إن نمو الاستهلاك الأمريكى (مع حلول الحكومة محل المستهلكين)، يقابله نمو الإنتاج والصادرات فى آسيا، وألمانيا، والدول المنتجة للبترول. وهذا لن يكون قابلا للاستمرار مثلما كان من قبل. والأدلة التى تدعم هذا التخوف متفاوتة. فقد تضاءلت الاختلالات فى التجارة العالمية على نحو كبير مع انخفاض عدد المستهلكين الأمريكيين، وتخلص الدول المصدرة للبترول من بعض فوائضها، وحال نمو الصين دون هبوط وارداتها بنفس سرعة هبوط صادراتها. ويرى نفر قليل للغاية من بين الاقتصاديين فى ذلك اتجاها جديدا غير أن آخرين، مثل تى جيه بوند من بنك أوف أمريكا، يرجحون أن يكون تراجع الفائض الصينى مؤقتا. ويقول بوند: «عندما ينهض النمو فى بقية أنحاء العالم، نتوقع أن تتعافى صادرات الصين وفائضها التجارى من مستويات منتصف 2009 المنخفضة». أما ثانى المخاوف، فهو أن الاستهلاك الأمريكى لا يتعافى فما زالت معدلات ادخار الأسر مرتفعة، وتراجع الإنفاق الحكومى خشية حدوث عجز حكومى لا يمكن تحمله، وليس هناك محرك آخر للنمو الاقتصادى العالمى. ومرة أخرى تعتبر الولاياتالمتحدة هذا التخوف نوعا من التهديد. ويقول تيم جايتنر، وزير الخزانة الأمريكية، إنه بينما تدخر الولاياتالمتحدة أكثر سيكون على العالم أن يحول مصادر النمو بصورة أكبر نحو الطلب المحلى». ولم تضع بلدان أخرى ذلك بعد بشكل كامل على أجندتها. وقد اتفقت مجموعة العشرين على «إطار جديد لتحقيق نمو قوى ومستدام ومتوازن» يعتمد على ضغط الأقران. ولكن الكثير من مسوغات الإطار الجديد المتمثل فى أن على الدول الأخرى تنشيط الطلب المحلى لتعويض زيادة الادخار الأمريكى تم تخفيفها فى البيان النهائى مقارنة بالمسودات السابقة، التى أعدتها الولاياتالمتحدة. ويؤكد ذلك الصعوبات التى سيواجهها العالم من أجل الاتفاق على أهداف جديدة للاقتصاد العالمى، ناهيك عن وسائل إجبار الدول على إجراء إصلاحات فى سياساتها، تعتقد أنها ليست فى صالحها. ويشير النزاع الساخن الذى نشب خلال قمة مجموعة العشرين بين الولاياتالمتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة حول المقاعد فى مجلس إدارة صندوق النقد الدولى إلى أن تحقيق توافق على جعل المؤسسات المالية الدولية مسايرة للاقتصاد العالمى المعاصر ما زال بعيدا عن المنال. ولكن يبقى أنه حتى الآن، ما زال القادة، ووزراء المالية، وخبراء الاقتصاد، منفتحين على بعضهم البعض. وتم إحراز بعض التقدم، فقد نجحت إجراءات التحفيز العاجلة المنسقة، والمزيد من ذلك فى الطريق. فهم، على أى حال، مروا بأسوأ أزمة اقتصادية ومالية فى حياتهم، ويخرجون منها باقتصاد عالمى متداعٍ غير أنه فى حالة أفضل كثيرا مما كانوا يخشونه.