هذه رواية تتناول واحدة من أهم المشكلات التى لازلنا نواجه نتائجها الخطيرة، بسبب الجهل، وقلة الوعى، وعدم إدراك صعوبة عواقبها، وهى زواج الأقارب، الذى ينتج عن أغلبه أطفال غير أصحاء، تنتهى حياتهم بعد معاناة مع المرض لهم ولذويهم، ولأن كاتبها طبيب، ويدور جزء كبير منها فى أجواء المرض والموت والمستشفيات، فلا يدهشنا المعنى الذى جاء به عنوان الرواية «سيندروم»، والذى فسره البعض على أنه متلازمة مرضية، وأشار له الكاتب بالجينات المغشوشة. وعلى ازدحام هذا العمل بالأشخاص، ورغم سيرها فى عدة اتجاهات، فإنها أتت بشكل لا يربك القارئ، ونجح كاتبها إبراهيم البجلاتى، أن يقدم لنا أحد أعمال السيرة الذاتية المتميزة، فالرواية الصادرة عن «الدار» للنشر، مقسمة إلى ثلاثة أجزاء، أولها يحكى عن عائلة البجلاتى، بدءا من الجد «على الأول»، والذى يشاع أنه مات بالحسرة على أرضه التى نهبها منه عمدة البلد، وهو الأمر غير المقنع بالنسبة للراوى، نظرا لعدة عوامل شغلت رأسه مثل غموض المرض الذى أقعد جده عن الفلاحة مما اضطر زوجته إلى الاستدانة وضياع أرضه، ثم يأتى على الثانى عم الراوى، والذى كان له دور كبير فى لم شمل العائلة بعد وفاة الجد رغم صغر سنه، حيث كان يتمتع بالحكمة، ما مكنه من احتواء مشكلات أخواته وأزواجهن، ثم «على الثالث» المتطرف دينيا، والذى كان مصدر إزعاج لمن حوله. الرواية تتناول المشكلات المرضية والوراثية التى تتعرض لها الأجنة بسبب زواج الأقارب، والذى يصر عليه بعض أفراد العائلة، رغم أن غالبية الجيل الثانى والثالث من الأسرة، يعد من حاملى المؤهلات العليا، ويشغلون وظائف مرموقة، وفيهم الطبيب، ومنهم من يعمل بالبحث العلمى، فمثلا نجد أن أخوات الراوى يتزوجن من أبناء عمتهم، التى يصفها الكاتب بمحراب الشر، ما ينتج عنه ابنهما الأول أحمد الذى تتدهور حالته الصحية بمجرد إتمام عامه الأول، دون معرفة طبيعة مشكلته الصحية، ورغم هذا ينجبان «رولا» التى تعانى هى الأخرى من الأعراض نفسها، ويموت الطفلان، وهو الأمر الذى لم تسلم منه «سارة» أو «صلاح» اللذان ماتا بأعراض مشابهة، ولكن فى أعمار مختلفة. فى إشارة بين السطور بأن عنوان الرواية «سيندروم» لا يقصد به البجلاتى معناه الطبى المتلازمة المرضية بقدر ما يقصد به دلالة أخرى، تحمل بعدا فكريا، وتعنى متلازمة الأفكار المتخلفة، التى تعانى منها الشريحة الأكبر فى المجتمع المصرى، متمثلا فى هذه العائلة ذات الجذور الريفية، وسلسلة أمراضها التى جلبها عدم الشعور بالمسئولية. القسم الثانى من الرواية، يتناول طفولة البجلاتى، والتى تعتبر عادية إلى حد كبير باستثناء حبه للقراءة، حيث المعيشة فى أحد المنازل المصرية الأصيلة، التى يعتبر الجار فيها أقرب من الأهل، تلك البيوت التى تجتمع نساؤها كل صباح للذهاب إلى السوق سويا، ثم يرجعن إلى المنزل باحتياجات اليوم، وينهمكن فى تحضير طعام الغذاء للأزواج، فى ظل أبواب شقق مفتوحة يدخلها أولاد البيت دون استئذان، ثم تغلق هذه الأبواب عند عودة الرجال من أعمالهم، وتفتح من جديد بعد الظهيرة، كى تجتمع النساء على عتبات الشقق، يكملن حديثا انقطع نهارا، أو يثرثرن فى أى أشياء غير مفيدة، بينما الرجال تحت المنزل يلعبون الشطرنج، ولكن كل هذه الحميمية تنقلب إلى كآبة، عندما يموت ابن صاحب البيت فى الحرب، فلم تعد أمه التى كانت بمثابة رئيسة نساء البيت، تمر عليهن للذهاب إلى السوق، وباتت النساء تذهبن إلى السوق كل على حدة، ولم تعد الأبواب مفتوحة طوال اليوم. ثم يحكى الكاتب انتقاله من مرحلة الطفولة إلى المراهقة التى تفتحت مع قراءته لكتاب ألف ليلة وليلة، والذى جعله يبحث فى الواقع عن أشخاص يحلون مكان أبطال الكتاب الخياليين، فيأخذ عزت المكوجى دور الحمال القوى مفتول العضلات، وجاءت فايزة ابنة القهوجى بدلا من شخصية الدلالة فى ألف ليلة وليلة، إلى أن ينتقل فى القسم الثالث من الرواية إلى أساطير الآخرين التى يتعرف عليها بداية من السنة السابعة فى دراسته للطب، والتى يمر فيها الطالب على عدة أقسام طبية مثل قسم الجراحة العامة، وأمراض الباطنة، وقسم الكلى والمسالك البولية، وفى هذا الجزء من الرواية يطلعنا الكاتب على أشياء، تجعلنا نندهش قليلا، فعلى سبيل المثال، عند دخوله غرف العمليات لأول مرة، للمساعدة فى نقل كلية من متبرع إلى أحد المرضى، يشرح لنا تفصيلا، كيفية التعقيم الذى يلزم الأطباء قبل دخول غرفة العمليات، فيقول: «تلقفنى طبيب مقيم، وقادنى إلى غرفة التعقيم، وقال: افعل مثلما أفعل، ضغط على زر فاندفع الماء من الصنبور، وصدر من السقف صوت متقطع كصفارة، وأنارت لمبة حمراء فوق رأسه، تناول فرشاة مغلفة، فتح غلافها، وبانت الفرشاة بحجم الكف، لها وجهان، واحد إسفنجى ناعم والثانى خشن، الوجه الناعم للكف والساعد، والخشن للأصابع والأطراف، وبضربة خفيفة من كوعه على يد معدنية، اندفع سائل البتادين على الفرشاة، فقال، تظل تغسل يداك بنفس الطريقة حتى يتوقف صوت الإنذار». طريقة التعقيم المعقدة، ودقة تعامل الممرضة التى تساعد الطبيب فى هذه العملية، والتى وصفها البجلاتى فى روايته بهذا الشكل، تطرح سؤالا عن سوء السمعة التى يتمتع بها التجهيز والتمريض الطبى فى مصر؟ فى هذا القسم من الرواية يتعرض الكاتب للعلاقات الإنسانية التى تنشأ بين المرضى والأطباء، خاصة المغتربين الذين يقضون الوقت فى خط الكلمات على الجدران، والتى اكتشفها خلال تعيينه فى إحدى الوحدات الصحية بجنوب سيناء، ويبدأ فى التأقلم مع هذه الحياة، ويسلى نفسه بين الحين والآخر بقراءة ما كتبه الآخرون، من تعليقات سياسية، وجنسية، على جدران العنابر ودورات المياة. وهكذا نجد أن إبراهيم البجلاتى استطاع أن يجدل ضفيرة من خبرته كطبيب، وموهبته ككاتب، ليطرح علينا أمورا علمية، مثل مشكلات الطب، والجينات الوراثية، وأسئلة من نوعية: لماذا تعيش المرأة أكثر من الرجل، فى صورة أدبية جيدة، ويثبت أن تأمل الكاتب فى واقعه، وعدم استغراقه فى عوالم أخرى لا يعرف عنها شيئا، يُنتِج أفضل أنواع الأدب، كما أثبت أن العلاقة الوطيدة بين الطب والأدب فى مصر لازالت على ما يرام.