«اللعبة الوحيدة المتاحة فى المدينة»، هكذا وصف محافظ البنك المركزى الفرنسى كريستيان نوير فى عام 2014 الدور المحورى والمسئوليات المتراكمة للبنوك المركزية فى ضبط الأسواق والاقتصاد والاستقرار المالى. فقد لعبت البنوك المركزية الدور الرئيسى فى قيادة السياسة العامة فى مواجهة زلازل الأزمة المالية العالمية، بما يتجاوز كثيرا حدود الوظيفة المرسومة لها، كمؤسسات تقوم، فى جيلها الأخير، على الاستقلالية عن صناع القرار الاقتصادى فى الحكومات للحفاظ على استقرار الأسعار باستهداف التضخم. وقد تفادى الاقتصاد العالمى الانهيار الكامل، واستعاد قدرا من الاستقرار والنمو. وعلى الرغم من أن النمو ظل بطيئا لدرجة أوعزت للبعض بأن يسميه ركودا مزمنا، لكن اقتصاديين عديدين على رأسهم الاقتصادى المصرى الأصل وعضو المجلس الاستشارى للمركزى المصرى محمد العريان يعزون الفضل فى الإفلات من فلك الأزمة إلى أداء البنوك المركزية. إن تَصَدُّر البنوك المركزية لقيادة السياسة الاقتصادية العامة، بأدواتها المتمثلة فى أسعار الفائدة وسياسات سعر الصرف وغيرها، ليس ظاهرة غربية تقتصر على المراكز المالية الكبرى. وإنما امتدت لاقتصادات كانت بعيدة عن مركز الزلزال فى 2007 و2008 كمصر مثلا. وغنى عن البيان دور المركزى المصرى فى صياغة وتنفيذ البرنامج المرافق لقرض صندوق النقد الدولى وعلى رأس بنوده تخفيض سعر الجنيه المصرى. وفى آخر اجتماعات ربع سنوية للصندوق والبنك الدوليين، والتى أقيمت فى بالى الشهر الحالى، قال محافظ المركزى المصرى لوكالة بلومبرج إنه صار «المستشار الاقتصادى الأول للحكومة وللرئيس». غير أن دور البنوك المركزية له حدوده، كما حذر العريان فى 2016، مشيرا إلى أن شبه انفرادها بدفة السياسة الاقتصادية فشل فى استعادة النمو. وهذا كتاب جديد صدر الشهر الماضى تحت عنوان «هل تخدم البنوك المركزية الشعب؟»، لثلاثة من الأكاديميين فى جامعات كندية وبلجيكية يشاركون العريان قلقه. *** يبدأ بيتر ديتش وفرانسوا كلافو وكليمن فونتان كتابهم بمراجعة الإطار الحاكم لعمل البنوك المركزية وهو استقلالية البنك المركزى. مازال هذا الإطار، الذى ينزع الطابع السياسى الاجتماعى من السياسة النقدية، محولا إياها إلى قواعد عمل محايدة تقنية، نجاحها يقوم على إبعادها عن تأثير الحكومات وتقلبات الانتخابات ووزراء المالية الفاسدين، يحوز على الرغم من كل شىء ثقة خبراء الأسواق. ويشير كتابهم إلى مسح أجرى فى ديسمبر 2016 بين 70 خبيرا بريطانيا وأوروبيا عبر 94% منهم عن تأييدهم استمرار استقلالية البنوك المركزية، لكنه يختلف مع هذا. يذكرنا الكُتَّاب الثلاثة بأن إطار الاستقلالية الحاكم حديثٌ نوعا ما. وكمفارقة مع تطورات الوضع خلال العقد الحالى، من المفترض أن تتوازى فيه الاستقلالية مع حدود عمل ضيقة تتمثل فى استقرار الأسعار والاستقرار المالى فقط، بعد أن كان النمو أو التشغيل وأسعار الصرف جزءا من الخطوط العامة لعمل البنوك المركزية فى السابق (عادت بعض البنوك المركزية جزئيا لاستهداف التشغيل مثلا فى السنوات الأخيرة). هذا الإطار، المتوافق تماما مع تصورات الليبرالية الجديدة فى إضفاء التقنية الفنية على السياسة الاقتصادية بما فيها الحكومية، ينطلق من أن السياسة النقدية، التى يقودها المركزى، يجب ألا تنظر لأبعد من استقرار الأسعار، وإن الحكومات هى المعنية بالأهداف المجتمعية الأبعد وذلك فى إطار أن قرارات السياسة النقدية معطى لا ينبغى تغييره والعبث به. وهكذا فإن قرارات كتخفيض العملة أو خفض الفائدة أو رفعها، غير مطلوب منها النظر للأثر على الفقر أو التشغيل مثلا. فهى يجب أن تكون محايدة لا تعتمد إلا اعتبارات فنية محضة. وعلى الحكومة أن تتعامل مع هذا الأمر الفنى الواقع، الذى يُقدم على أنه لا مناص منه. وبالطبع فإن قرارات السياسة النقدية هى الأخرى قرارات لها طابع سياسى واجتماعى، وتعبر عن خيارات سياسية، ودائما هناك مستفيدون منها وخاسرون بسببها. يعترف الكتاب بمخاطر خضوع قرارات السياسة النقدية بشكل كامل لأهواء السياسيين، رفع سعر الفائدة مثلا يفاقم عجز الموازنة بشكل مباشر وهكذا كان القرار محل خلاف تاريخيا فى مصر بين وزراء المالية ومحافظى البنك المركزى، وفى نفس الوقت فإن مصالح دائنى الحكومة مثلا، أجانب ومحليين، ستكون دائما مع رفع الفائدة. لكنه يقول إن هذا الإيمان التقنى الفنى بأن الأسواق تصلح نفسها ساهم فى خلق الأزمة المالية فى المقام الأول. حيث انسحبت البنوك المركزية من دورها فى ضمان استقرار الأسواق. ولنتذكر شهادة آلان جرينسبان محافظ الفيدرالى (البنك المركزى) الأمريكى بعد اندلاع الأزمة، التى اعترف فيها بأن النموذج أصيب بالعطل. مازالت البنوك المركزية كلها على الرغم من ذلك تعتبر أن هذا الإطار الحاكم هو الذى يصب فى المصلحة العامة، والتى تظل هدفها المعلن. لكن الكتاب يرصد 3 مجالات فشلت فيها البنوك المركزية فى هذا الإطار. الأول هو أن آثار السياسة النقدية التى اتبعتها البنوك المركزية فى أعقاب الأزمة كان لها آثار «مقلقة» فى مفاقمة اللامساواة والتفاوت فى الدخل والثروة. يمكن هنا الإشارة سريعا إلى ما رصده البنك الدولى من تصاعد معدلات الفقر فى مصر بعد تعويم 2003، وهو ما يتوقع تكراره فى مسح الدخل والإنفاق 2017 المنتظر الإعلان عنه. الأمر الثانى، هو تزايد نفوذ وتأثير القطاع المالى على السياسة النقدية والمالية، بسبب زيادة الأمولة والتوريق المالى والاعتماد المتزايد على البنوك التجارية والمؤسسات المالية فى تمويل عجوزات الموازنات والدين العام. ويؤكد الكتاب أن الترتيبات الحالية تعلى من مصلحة هذه المؤسسات على المصلحة العامة. أما الأمر الثالث، فهو ما يعتبره الكتاب تناقضات بين دورين لمسئولى المركزى، كمنظمين للسوق ومديرين للسياسة ثم كخبراء يقدمون شهاداتهم للرأى العام. يرصد الكتاب كيف أن البنك المركزى خطَّاء كغيره من المؤسسات، «بل إنها لم تتعلم الكثير مما حدث فى 2007»، معتبرا أن هذه الشهادات، قد غلب عليها عالميا اعتبارات تبرير السياسات لحماية وتوسيع دور البنوك المركزية مما فارق بينها وبين الواقع والمصلحة العامة معا. *** يقدم الأكاديميون الثلاثة إطارا لإصلاح البنوك المركزية يقوم على الشفافية وعلى توسيع دائرة اتخاذ القرار بما يسمونه السياق النقدى الذى تتخذ فيه القرارات وإلى أى حد هناك عملية تأخذ فى الاعتبار القوى الاجتماعية المختلفة. يطالب الكتاب بإصلاحات فورية بتبنى نموذج يراعى قضايا التوزيع واللامساواة ويقلص نفوذ مستثمرى السندات الحكومية، ويزيد فيه التعاون بين الحكومة والمركزى تحت رقابة المجتمع المدنى. بالإضافة إلى ذلك، يدعو الكتاب للنظر فى تعدد خلفيات مسئولى المركزى على مستويات عدة. هل بينهم ممثلون للأقليات والأقاليم المهمشة؟ هل يجيئون من القطاع الخاص أم من الأكاديميا؟ هل بينهم عددٌ كافٍ من النساء والاقتصاديين؟ يقول الكتاب إن تعامل مسئولى المركزى مع عناصر الشفافية والتعددية ووجود إطار مؤسسى يساعد على تقديم رؤى نقدية لسياساتهم من المجتمع المدنى وغيره وإلى أى حد يستجيبون لهذه الرؤى، شروط لا غنى عنها كى يكون عمل البنوك المركزية أقرب للصالح العام. بيتر ديتش وفرانسوا كلافو وكليمن فونتان، هل تخدم البنوك المركزية الشعب؟، أكسفورد، الناشر: بوليتى، سلسلة مستقبل الرأسمالية، سبتمبر 2018، 140 صفحة.