عندما تعتزم الذهاب لشراء رواية ذاع صيتها، سيتم إرشادك إلى إحدى المكتبات الحديثة التى تملأ القاهرة اليوم، تقترب من واجهة المكتبة الفاخرة والتى تشبه مكتبات أوروبا. تتبين الأرفف الداخلية المنمقة عبر الباب الزجاجى، وعند الولوج إلى المكتبة تجد نفسك وسط مجموعات من الكتب مقسمة بعناية طبقا لتنوع موضوعاتها، وعلى جانب آخر تلمح الأسطوانات المدمجة لأفلام وموسيقى عربية وأجنبية منتقاة، بينما تحتل الجدران نسخ من لوحات كبار الفنانين التشكيليين، يغلف المكان موسيقى كلاسيكية هادئة تنبعث فى دماثة ورقة. وفى إحدى الزاويا يطل أحد العاملين بالمكتبة فى زيه الأنيق خلف شاشة الكمبيوتر بينما أصابعه تجرى مسرعة على لوحة المفاتيح باحثة عن كتاب يطلبه أحد الزائرين. وربما تصادف فى زيارتك حفل توقيع، فتجد مجموعات تحيط بكاتب يقرأ لهم جزءا من كتابه ويوقعه للطالبين. وقتها سيلح على ذاكرتك شكل المكتبة التقليدية التى طالما ارتدتها برائحة كتبها القديمة، فتتذكر أحد العاملين بها عندما تسأله عن كتاب ما أو رواية فيسرد قوائم أعمال الكتاب التى حفظها عن ظهر قلب ويعطيك إحساسا بأنه قرأ هذه الأعمال كاملة. ظهرت هذه المكتبات منذ ثمانى سنوات فى وقت تراجعت فيه نسبة القراءة، وأصبحت تشكل ظاهرة جديدة فى المشهد الثقافى الحالى، بدأتها «ديوان» التى بدت كالقاطرة جلبت وراءها «الكتب الخان» و«البلد» التى أقامت فرعا لها فى المنصورة بعدها بخمس سنوات ونصف السنة فى القاهرة وبعض ضواحيها، تبعتهما «آفاق» لتختلف عنهما قليلا، حيث تمزج مابين الطابع الكلاسيكى لمكتبة متفاعلة لا مكان بها للمقهى، لكن مغامرتها الحقيقية فى كونها دار نشر أيضا وتراهن بشكل أساسى على الدواوين الشعرية الذى يبدو أكثر الأجناس الأدبية ثقلا. والسؤال هنا يطرح نفسه عن الدور الذى تلعبه هذه المكتبات، هل يقتصر دورها فى الاحتفاء بالنموذج الغربى للمقهى الأوروبى الذى يقدم الكتاب كسلعة مع القهوة وأحاديث الأصدقاء الجانبية؟ هل هى مجرد مساحة للقاء الصفوة وحضور احتفاليات توقيع الكتب؟ أم أنها تتفاعل مع الواقع الثقافى بشكل فعلى مندمجة مع العديد من الكيانات المستقلة البديلة لتنشط الحركة الثقافية المؤسساتية الخامدة؟ حلم المكتبة بالمركز الثقافى هند واصف، أحد ملاك مكتبة ديوان تقول: نجحنا فى إعادة دور المكتبة بشكل جديد، لا نقلد الشكل الأوروبى بل نستفيد من نقل نموذجه وفى الوقت نفسه نحافظ على سعر الكتاب طبقا لمكان نشره. وعن الفارق بين المكتبات الجديدة والمكتبات التقليدية تقول السيدة واصف: ترسخت فى أذهاننا منذ زمن فكرة ثابتة عن المكتبة التى تتجول بداخلها يصاحبك أحد يسألك عما تريد، فضلا عن عرض الكتب وتكديسها بشكل تعلوه الأتربة ويبعد عنه أى جاذبية. لم تكتف هذه المكتبات بالدور الذى تبنته فى التفاعل ما بين الكاتب والكتابة، لكنها طورت من نفسها لتشارك فى الحراك الثقافى الحالى. والطريف أن يأخذ الطفل مساحة خاصة من الاهتمام بجانب القراء الشباب والكتاب أيضا ، فتنظم «ديوان» أسبوعيا زيارة لطلاب المدارس لغرس مكانة للكتاب فى نفوس الأطفال، هذا إلى جانب ورش الشغل اليدوى والرسم ودروس فى تنمية ذكاء الطفل. أما الحلم بإنشاء مركز ثقافى ، تتفاعل خلاله كل أنواع الثقافة، والذى راود « كرم يوسف » صاحبة مكتبة «الكتب خان» بالمعادى، فقد عملت على تحقيقه من خلال جاليرى صغير يباع فيه الكتاب وتقام فيها محاضرات شهرية فى مجالات متعددة ومنها محاضرات الفن التشكيلى التى قدمتها بالتعاون مع محمد الرزاز، بجانب النشاط السينمائى ومشاهدة الإفلام التسجيلية أو الافلام «الهادفة» على حد تعبير كرم التى تختارها بانتقائية شديدة حتى لا تزعج زائر المكتبة. ورش الكتابة وفى إطار تطوير النشاط الثقافى بالمكتبات والإسهام فى تطلع العديد من شباب الكتّاب إلى الكتابة والنشر، بدأت كتب خان وتبعتها مكتبة البلد فى تنظيم جلسات «ورش كتابة» وهى صيغة متعارف عليها فى الخارج على اعتبار أن الكتابة ليست «إلهاما»، بل ثقافة ودأب ورغبة فى تحقيقها قبل أى شىء. فقامت كرم يوسف بالاتفاق مع القاص ياسرعبد اللطيف على إعداد ورشة للكتابة ، يقول عنها ياسر إنها لا تتبع مناهج للتدريس وليست تعليمية ولكن الهدف الأساسى منها تنشيط حس الكتابة. بدأت ورشة «الكتب خان «بثمانىة أفراد اختلفت خلفياتهم المهنية والتعليمية، وأول ماطرحت على المشاركين هو الكتابة عن علاقتهم بحى المعادى ثم تنوعت النصوص وتفرعت لتبتعد عن الحى المنعزل وتتحول إلى نصوص إنسانية صادقة لتنتقل بعد ذلك من مجرد نص شخصى إلى حيز العمل الأدبى المنشور، وخرج إنتاج هذه الورشة فى كتاب «السابعة والنصف مساء الأربعاء». ويرى د. بهاء عبد المجيد، أستاذ الكتابة الإبداعية والأدب الإنجليزى بكلية التربية جامعة عين شمس وصاحب رواية «جبل الزينة» فى هذه التجربة فرصة للمبدعين الشباب لممارسة الكتابة على غرار النموذج الغربى للمكتبات وهو المسئول عن ورشة الكتابة بمكتبة البلد. أما مصطفى عبادة الشاعر والمسئول عن مكتبة البلد والذى يرفض تسميتها بالمكتبة ويؤثر أن يسميها «مركز ثقافى» لكل الأنشطة الثقافية من الندوات وحفلات التوقيع وورش الكتابة وعروض السينما والموسيقى، فيؤكد أن البلد خرجت بهذا الشكل لتفتح أبوابها لتجمع ثقافى خاص بالكتاب والقراء من كل التيارات وكل الأجيال، «تحتل البلد دور تنويرى ثقافى يرتكز على الشباب أولا وأخيرا حتى تجذبه الثقافة ولا تتنازعه تيارات أخرى مثل الفيديو كليب أو الأخوان المسلمين». وتظل للمكتبات الكلاسيكية روادها الذين ارتبطوا تاريخيا بها، يرى الكاتب الصحفى خالد السرجانى وهو وجه معروف بمكتبات وسط البلد وبائعى سور الأزبكية المخضرمين أن تلك المكتبات الجديدة أحدثت حراكا كبيرا فى المياه الراكدة خاصة بين قطاعات من الشباب لم يعتادو القراءة، فيدخلون إلى المكتبة لاحتساء الشاى والقهوة ويتقابلون مع أصدقائهم فتقع أعينهم على بعض الكتب مما يعود عليهم بالفائدة بشكل غير مباشر. ويضيف: لكننى أظل أتعامل مع مكتباتى القديمة التى تعودت عليها وهى «مدبولى» بوسط البلد و«الشروق» التى تقابلها، فهما أفضل من حيث الكم والعرض وأحفظ خريطة المكان، بالإضافة إلى أننى أعرف العاملين بداخل هذه المكتبات بشكل شخصى على مر السنين، بالإضافة إلى أن العاملين بهما لهم خبرة عملية فى بيع الكتاب ولديهم إجابة دائمة عن مكان الكتاب المنشود على عكس العاملين بالمكتبات الجديدة المعتمدين بشكل أساسى على الكمبيوتر، حيث يغلب عليها الاهتمام بالشكل أكثر من المضمون». ويؤكد السرجانى أن هناك مكتبات تجمع ما بين العراقة والقدم ومواكبة التطور مثل مكتبة «الشروق» ومكتبة «آفاق» التى أحدثت رواجا على صعيد تعريف الكاتب، ونجحت سريعا فى دخول المجال بحفلات التوقيع والندوات لتتكامل الصورة المتفاعلة مع الكتابة والقراءة فى آن. السيدة مروة عادل، المدير التنفيذى بالغرفة التجارية بالقاهرة، وأحد رواد مكتبة «الكتب خان» الدائمين تقول: إنه رغم بعد المسافة بين المكتبة بالمعادى ومنزلها بمدينة نصر، إلا أن الجو الهادىء بهذه المكتبات وحفلات التوقيع التى تنظمها وما يتبعها من مناقشات جعل القراءة أكثر امتاعا وكأنها تعطى مفاتيح للدخول فى الموضوعات بشكل أيسر، وتضيف: روح المكتبة مختلفة عن زمان، لأننى حينما كنت طفلة كانت زيارة المكتبة بها شىء من الصرامة، كنت أشعر بأننى يجب أن أذهب بملابس المدرسة وأننى أقوم بمهمة ثقيلة. لاشك أن هذه المكتبات بهذا الأداء التفاعلى وبهذا الشكل الجديد حتى وإن اقتربت من الشكل الأوروبى، قد أرست مشهدا موازيا مع المشهد الثقافى المؤسسى الباهت، لتفسح مجالا أكبرلأعداد غفيرة من المهتمين بالقراءة والكتابة والفن شكلا ومضمونا.