يؤكد الشيخ الإمام محمد الغزالى أن فقه الكون والحياة فريضة تسبق غيرها من الفرائض التى صنعها أصحاب الثقافات المغشوشة وزعموها ديناً وهى أبعد ما يكون عن الدين. وفى حلقة اليوم يتساءل الشيخ عن أسباب تأخر المسلمين: علوم الدنيا متجددة، وقد لاحظنا فى نصف القرن الأخير أن المعارف الإنسانية زادت بما يساوى أو يفوق ما حققته الإنسانية طوال القرون الماضية، ودارسو العلوم الكونية ومتابعو التطور الحضارى يحسون هذه الحقيقة. ومن المؤسف أن المسلمين لم يسهموا فى هذه الوثبة الرحبة، أعنى مسلمى القرون الأخيرة، أما آباؤهم الكبار فأياديهم على العالم لا ينكرها إلا متعصب جاحد.. بم شغل المسلمون المتأخرون أنفسهم؟ بالكلام فى بعض الجوانب الدينية! فقد يستغرق شرح الصلاة شهرا! وقد يطول الحديث فى الوضوء والغسل قريبا من هذه المدة.. وبديه أن أفرق بين التخصص العلمى وبين الأنصبة التى تعم الجماهير.. وأيا ما كان الأمر فإن المساحة الزمنية والعقلية التى لابد منها لعلوم الحياة ضاقت كل الضيق لحساب شئون أقرب إلى اللغو والثرثرة، ومن ثم لحقت بالإسلام هزائم مادية وأدبية شائنة. إن المسلمين الأولين اخترعوا علوم المعانى والبديع، والنحو والصرف لخدمة الإعجاز البيانى فى القرآن الكريم. وخدمة هذا الكتاب تحتاج إلى جانب ذلك حاجة ماسة إلى علوم الأحياء والفيزياء والكيمياء والفلك وطبقات الأرض.. إلخ. والجهالة بهذه العلوم خيانة مخزية للإسلام وكتابه الضخم.. وهى مع كونها خيانة دينية خيانة إنسانية عامة لرسالة أبينا آدم الذى ألهم الأسماء كلها، وجعلت له الأرض ذلولا، وساد فيها البر والبحر! لماذا يغوص غيرنا فى الماء، ويسبح فى الفضاء ونحن ننظر مشدوهين؟ لماذا يملك الإلحاد الكهرباء والذرة ولا نملك نحن إلا الهراوات؟ نهدد بها من يعترض أهواءنا..!! أليس عجيبا أن تكَّلف أمة ببناء إيمانها على دراسة الكون، ومع ذلك تحيا محجوبة عن الكون ونواميسه وأسراره وقواه؟ أهذه هى استجابتها لقول الله: «إن فى خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم، ويتفكرون فى خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك . لو كانت أمتنا حين تكاسلت واستنامت تعيش على ظهر الأرض وحدها لكان وزر تخلُفها على رأسها، تعانى منه فى شئونها قلّت أو كثرت! لكن أمتنا فى سباق مع أمم أخرى لا تنام! أمم لا رسالة لها، أو لها رسالة مادية محدودة قوامها الباطل والهوى. ومع ذلك فإن المبطلين يسابقون الريح نشاطا وعزيمة، ونحن ممثلى الحق جاثمون على الثرى، ننظر ببرود أو بلاهة إلى الآخرين، ولا نعى من رسالتنا شيئا ذا بال. الآدمية فى كتابنا علم عجزت عنه الملائكة، وظفر به آدم وحده، فاستحق الخلافة فى الأرض! والآدمية فى حياتنا طعام وسفاد، وتحاسد وتفاخر، أى هى الحيوانية الهابطة! الآخرون سيّروا الأقمار الصناعية وأرسلوا مركبات الفضاء تزودهم بمزيد من المعرفة. وفى الوغى لهم أظافر تخنق وتذبح وتصعق، وتفعل المنكر بعدوّها. أما نحن فقد نتودد لهم مشترين من أسواقهم، أو متزوّدين من غنائمهم، أو مستعيرين من أسلحتهم ما نحتاج إلى تعلُّمه منهم، قبل أن نحسن استخدامه! أنا ما أشك فى أن هناك عطبا أو كسرا أو تلفا فى كياننا الفكرى والنفسى جعلنا فى هذا الوضع المهين، وما نصحّ أبدا إلا بذهاب هذه العاهات، وعندئذ نصنع كما يصنعون. وقد أنظر إلى أنظمة الحكم هناك، فأجد القادة بلغوا فى ثقافتهم أعلى شأوٍ، وفى تجربتهم أعظم خبرة. ومع اقتدارهم على الرأى السديد فهم يستشيرون أهل الحلّ والعَقْد فى بلادهم، ويستمعون بإخلاص إلى الرأى الآخر، وإلى النصح المجرد، وكأن على لسان كل منهم كلمة أبى بكر «وُلِّيت عليكم ولست بخيركم، إن رأيتم خيرا فأعينونى، وإن رأيتم شرا فقوِّمونى. أما نحن فقد وقعت أمورنا بين أيدى أقزام متعالمين متطاولين.