أبناء سيناء: الإرهاب أوقف الحياة وشهدائنا مع الشرطة والجيش طهروها بدمائهم    4 أيام متواصلة.. موعد إجازة شم النسيم وعيد العمال للقطاعين العام والخاص والبنوك    بعد ارتفاعها.. أسعار استمارة بطاقة الرقم القومي 2024 وغرامات التأخير    سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الجمعة 3 مايو 2024 في البنوك بعد تثبيت سعر الفائدة الأمريكي    رسميًّا.. موعد صرف معاش تكافل وكرامة لشهر مايو 2024    عز يعود للارتفاع.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الجمعة 3 مايو 2024 بالمصانع والأسواق    انقطاع المياه بمدينة طما في سوهاج للقيام بأعمال الصيانة | اليوم    إسرائيل تؤكد مقتل أحد الرهائن المحتجزين في غزة    فلسطين.. وصول إصابات إلى مستشفى الكويت جراء استهداف الاحتلال منزل بحي تل السلطان    إبراهيم سعيد يهاجم عبد الله السعيد: نسي الكورة ووجوده زي عدمه في الزمالك    أحمد شوبير منفعلا: «اللي بيحصل مع الأهلي شيء عجيب ومريب»    الأرصاد تكشف أهم الظواهر المتوقعة على جميع أنحاء الجمهورية    نكشف ماذا حدث فى جريمة طفل شبرا الخيمة؟.. لماذا تدخل الإنتربول؟    قتل.. ذبح.. تعذيب..«إبليس» يدير «الدارك ويب» وكر لأبشع الجرائم    جناح ضيف الشرف يناقش إسهام الأصوات النسائية المصرية في الرواية العربية بمعرض أبو ظبي    فريدة سيف النصر توجه رسالة بعد تجاهل اسمها في اللقاءات التليفزيونية    فريق علمي يعيد إحياء وجه ورأس امرأة ماتت منذ 75 ألف سنة (صور)    كيفية إتمام الطواف لمن شك في عدده    معهد التغذية ينصح بوضع الرنجة والأسماك المملحة في الفريزر قبل الأكل، ما السبب؟    خبيرة أسرية: ارتداء المرأة للملابس الفضفاضة لا يحميها من التحرش    جمال علام يكشف حقيقة الخلافات مع علاء نبيل    ضم النني وعودة حمدي فتحي.. مفاجآت مدوية في خريطة صفقات الأهلي الصيفية    إسرائيل: تغييرات في قيادات الجيش.. ورئيس جديد للاستخبارات العسكرية    محمد مختار يكتب عن البرادعي .. حامل الحقيبة الذي خدعنا وخدعهم وخدع نفسه !    "عيدنا عيدكم".. مبادرة شبابية لتوزيع اللحوم مجاناً على الأقباط بأسيوط    قفزة كبيرة في الاستثمارات الكويتية بمصر.. 15 مليار دولار تعكس قوة العلاقات الثنائية    مجلس الوزراء: الأيام القادمة ستشهد مزيد من الانخفاض في الأسعار    موعد جنازة «عروس كفر الشيخ» ضحية انقلاب سيارة زفافها في البحيرة    سفير الكويت: مصر شهدت قفزة كبيرة في الإصلاحات والقوانين الاقتصادية والبنية التحتية    ليفركوزن يتفوق على روما ويضع قدما في نهائي الدوري الأوروبي    طبيب الزمالك: شلبي والزناري لن يلحقا بذهاب نهائي الكونفدرالية    رسائل تهنئة شم النسيم 2024    الحمار «جاك» يفوز بمسابقة الحمير بإحدى قرى الفيوم    أول ظهور ل مصطفى شعبان بعد أنباء زواجه من هدى الناظر    شايفنى طيار ..محمد أحمد ماهر: أبويا كان شبه هيقاطعنى عشان الفن    جامعة فرنسية تغلق فرعها الرئيسي في باريس تضامناً مع فلسطين    اليوم.. الأوقاف تفتتح 19 مسجداً بالمحافظات    حسام موافي يكشف سبب الهجوم عليه: أنا حزين    بعد تصدره التريند.. حسام موافي يعلن اسم الشخص الذي يقبل يده دائما    تعرف على طقس «غسل الأرجل» بالهند    البطريرك يوسف العبسي بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك يحتفل برتبة غسل الأرجل    سفير الكويت بالقاهرة: رؤانا متطابقة مع مصر تجاه الأزمات والأحداث الإقليمية والدولية    فلسطين.. قوات الاحتلال تطلق قنابل الإنارة جنوب مدينة غزة    د.حماد عبدالله يكتب: حلمنا... قانون عادل للاستشارات الهندسية    برج السرطان.. حظك اليوم الجمعة 3 مايو 2024: نظام صحي جديد    جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات    بسبب ماس كهربائي.. إخماد حريق في سيارة ميكروباص ب بني سويف (صور)    مباراة مثيرة|رد فعل خالد الغندور بعد خسارة الأهلى كأس مصر لكرة السلة    فوز مثير لفيورنتينا على كلوب بروج في نصف نهائي دوري المؤتمر الأوروبي    بطريقة سهلة.. طريقة تحضير شوربة الشوفان    تركيا تفرض حظرًا تجاريًا على إسرائيل وتعلن وقف حركة الصادرات والواردات    مدير مشروعات ب"ابدأ": الإصدار الأول لصندوق الاستثمار الصناعى 2.5 مليار جنيه    القصة الكاملة لتغريم مرتضى منصور 400 ألف جنيه لصالح محامي الأهلي    «يا خفي اللطف ادركني بلطفك الخفي».. دعاء يوم الجمعة لفك الكرب وتيسير الأمور    صحة الإسماعيلية تختتم دورة تدريبية ل 75 صيدليا بالمستشفيات (صور)    أستاذ بالأزهر يعلق على صورة الدكتور حسام موافي: تصرف غريب وهذه هي الحقيقة    بالفيديو.. خالد الجندي يهنئ عمال مصر: "العمل شرط لدخول الجنة"    محافظ جنوب سيناء ووزير الأوقاف يبحثان خطة إحلال وتجديد مسجد المنشية بطور سيناء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مذكرات نبيل شعث «حياتى.. من النكبة إلى الثورة» (3 – 6): البحث عن هوية
نشر في الشروق الجديد يوم 15 - 10 - 2016

- تلقيت تدريبا عسكريا فى الحرس الوطنى المصرى.. وحصلت على بندقية لمقاومة عدوان 1956
- رفض والدى زواجى بعد تخرجى.. واشترط تدريبى فى 4 بنوك أوروبية وحصولى على الماجستير والدكتوراه
- حبى الأول صفاء زيتون قالت: «لن نتزوج إلا برضا والدك.. وسوف أنتظرك حتى آخر العمر»
- جماعة تبشيرية تابعة للمخابرات الأمريكية نصبت لى كمينًا واحتجزتنى فى جبل.. وأعضاؤها شنوا هجومًا على الإسلام والسود
فى الحلقة الثالثة من مذكرات السياسى الفلسطينى البارز، الدكتور نبيل شعث، والتى صدرت حديثًا عن «دار الشروق» تحت عنوان: (حياتى.. من النكبة إلى الثورة)، يبدأ صاحب المذكرات من المرحلة الجامعية والتحاقه بكلية التجارة بجامعة الإسكندرية، وفى مزيج بين العام والخاص يروى شعث كيف مرت أيام العدوان الثلاثى على مصر فى عام 1956، ويكشف أنها تلقى تدريبًا عسكريًا فى صفوف الحرس الوطنى المصرى وتسلم بندقية للمشاركة فى المقاومة، وتواكبت تلك المرحلة مع بدء نمو البذرة الأولى لقصة حب رقيقة بين نبيل شعث ورفيقة دربه فيما بعد صفاء زيتون، كما يتناول الصعوبات والنقاشات التى خاضها مع والده لإقناعه بالزواج المبكر، وكيف اضطر إلى حل مرحلى يسافر بموجبه إلى اوروبا لبدء الدراسات العليا والتدريب فى عدة بنوك، وتنشر «الشروق» عبر سلسلة من 6 حلقات عرضًا للسيرة الذاتية، التى تجمع بين المذكرات الشخصية والرواية التاريخية، وتغطى الفترة منذ بدايات الغزو الصهيونى لفلسطين، وفترة النكبة، وملحمة بيروت فى العام 1982، والحروب العربية الإسرائيلية، وانطلاقة الثورة الفلسطينية بقيادة حركة فتح، ونشأة منظمة التحرير، ومرحلتَى الأردن ولبنان فى تاريخ الحركة. وإلى الحلقة الثالثة:
التحقت بكلية التجارة بجامعة الإسكندرية فى تشرين الأول (أكتوبر) 1954، بعد ضغوط من الوالد، وبعد مناقشات مستفيضة معه ومع أصدقائه، وبعد مراجعة ذاتية لأهدافى وأحلامى ومستقبلى العملى والسياسى.
كانت الأيام الأولى فى الكلية سعيدة وتبشر بالخير. الحياة الجامعية تختلف كثيرا عن الحياة فى المدرسة الثانوية. هناك المزيد من الحرية فى اختيار الموضوعات وحصص المراجعة العملية ومواعيدها. وهناك أيضًا حرية أكبر فى حضور الدروس والمحاضرات أو التغيب عنها. مكتبة الكلية كانت صغيرة ومحدودة الموارد، ومع ذلك فقد أتاحت لى فرصة إضافية للقراءة والاطلاع. ثم هناك الاختلاط فى الجامعة بين الطلبة والطالبات، وهو ما لم يكن متاحا فى المدرسة الثانوية أو الابتدائية.
عند دخولى الجامعة كانت الأعداد ما زالت صغيرة ومعقولة، سمحت لنا بالتواصل مع أساتذتنا وبلقائهم خارج قاعات المحاضرات للاستفادة من علمهم بالأسئلة والمحاورة. تضاعفت الأعداد بعد ذلك سنة بعد سنة بالتزام الحكومة بالتعليم المجانى، الذى فتح أبوابه أمام الجميع كاستحقاق سياسى من خلال ما سمى بجامعة الأعداد الكبيرة، والتزمت الحكومة المصرية بتعيين خريجى الجامعة جميع، فى الوزارات والمؤسسات الحكومية، ما أدى إلى زيادة الإقبال على التعليم الجامعى وإلى زيادة كبيرة فى عدد الطلاب فى الكلية الواحدة.
لعبتُ دورًا مهمًّا فى انطلاق نظام «الأسر الجامعية» الذى بدأ كفكرة لتشجيع النشاط الثقافى والرياضى والاجتماعى بين الطلبة. وكان رائد أسرتى، هو الدكتور محمد عبدالعزيز عجمية، أستاذ الاقتصاد، وكان نائب الرائد الأستاذ رمزى زكى مدرس الإحصاء، وكان له ولزوجته السيدة دلال، التى كانت طالبة فى الكلية، الدور الأول فى خلق أسرة حقيقية من مجموعتنا.
انتقيت، مع الأستاذ رمزى، أعضاء الأسرة من الطلبة والطالبات بعناية فائقة: سلطان أبو على وعلى والى وحسن محيى الدين، وكاميليا كامل بيومى وليلى غالى. وأضفنا أعضاء جددًا فى الأعوام التالية، وكان بينهم صفاء زيتون، حبى الأول الحقيقى، ثم زوجتى وأم أولادى وشريكة حياتى لسنين طويلة. كانت صفاء طالبة جديدة جميلة ومرحة، وكانت مستعدة للمشاركة فى نشاطات الأسرة من دون تكلف أو تصنع. عرفت أن بيتها فى المندرة البحرية على حدود قصر المنتزه. توفى أبوها، معلم اللغة العربية فى كلية البنات، بمنطقة سابا باشا. جمعتنا الأسرة فى نشاطات عديدة، وتحولت الصداقة تدريجيًّا إلى حب صادق. تحدثت عن عائلتى وعن فلسطين، وحدثتنى عن أمها وإخوتها وأخواتها السبع، وعن عائلة زيتون فى إدكو بمحافظة البحيرة، وعائلة أمها فى بركة السبع بالمنوفية.
العدوان الثلاثى

فى 26 تموز (يولية) 1956، فى الذكرى الرابعة للثورة المصرية سدد عبدالناصر ضربته المفاجئة، ألقى خطابًا تاريخيًّا استعرض فيه الوضع السياسى كاملًا، منطلقًا من القضية الفلسطينية واستشهاد مصطفى حافظ، وفاجأ العالم فى نهايته بإعلان قرار تأميم قناة السويس.
تفاعلتُ مع مجريات الأحداث، والتحقت بالحرس الوطنى المصرى، فى كتيبة جامعة الإسكندرية، وبدأت التدريب العسكرى مع مجموعة من زملائى وأصدقائى، وعندما بدأت الدراسة، فى آخر أيلول (سبتمبر)، أصبح التدريب يوميا على أرض الكلية.
ليلة 29 تشرين الأول (أكتوبر) 1956 كنت مع صفاء فى الكلية نتابع محاضراتنا الدراسية المسائية. عدنا سويا فى الترام، وعندما وصلنا إلى محطة مصطفى باشا توقف الترام وصعد عمال يحملون طلاءً أزرق غطوا به النوافذ الزجاجية كلها. ساد الجو توترا وقلقا، وبدا واضحًا أن الحرب قد بدأت، أو هى على الأبواب. أوصلتها إلى بيتها فى المندرة، وعدت أدراجى إلى بيتنا وكلى قلق على مصر وعلى صفاء.
توجهت صباح اليوم التالى إلى كلية التجارة بملابس الحرس الوطنى، أحسست بالخطر الفادح الذى تتعرض له مصر وكل إنجازاتها، وأحسست بقلق شديد على فلسطين. عرفنا بالاجتياح الإسرائيلى لقطاع غزة، وبمذبحة خان يونس، التى قامت بها القوات الإسرائيلية، فازداد خوفى على فلسطين.
توقفت الدراسة فى الجامعة، وانتقلت مع سرايا كلية التجارة إلى موقع كتيبة الجامعة فى كلية الهندسة، وتطوعت صفاء وأختى ميسون فى صفوف الهلال الأحمر المصرى، وفى غياب والدى بقيت أمى وحدها مع أصغرنا، نديم وزينب. فى اليوم التالى وزعت الأسلحة علينا جميعًا، وكانت حصتى بندقية سمينوف نصف آلية سوفيتية الصنع.
مناقشة مع الوالد

استخدمت كل قدرات الإقناع التى اكتسبتها من والدى فى الحديث معه عن صفاء. ولا أعتقد أنه استمع إلى كلمة واحدة، قال لى: «صفاء فتاة جيدة، وجذابة، ومهذبة، أنا لا أعرفها جيدًا، ولا نعرف شيئا عن عائلتها. ولكن ذلك كله ليس مهمًّا الآن، المهم هو أن تعد نفسك للمستقبل الواعد الذى خطوت الخطوة الأولى فى طريقه». «أمامك خطوات عديدة حتى تستطيع الوصول. لقد سهرت الليالى أحلم بمستقبلك وأعد العدة لتحقيقه، رأيتك منذ طفولتك قائدًا وزعيمًا فى وطنك تعمل لتحرير وطنك السليب وإعادة بنائه، وهذا ما يجب أن تفعله، لا تضيع دقيقة يمكنك استخدامها فى بناء هذا المستقبل».
بدأ والدى بعرض خطته، كانت خطة الوالد لإعدادى لحياتى العملية طموحة، وذكية ومبدعة: كانت تبدأ بسنتين من التدريب العملى فى بنوك أوربية متعددة الأنظمة. بنك الاتحاد السويسرى Union de Banque Suisse فى جنيف، حيث أتعلم الفرنسية أيضًا لمدة ستة شهور، يتبعها ستة شهور فى بنك ميدلاند Midland فى لندن، أنتقل بعدها إلى دوسلدورف بألمانيا للتدريب فى البنك الألمانى دويتشه بنك Deutsche Bank وأتعلم اللغة الألمانية، وأخيرا فى بنك روما Banca di Roma فى روما لأتعلم اللغة الإيطالية، والنظام المصرفى الإيطالى.
كيف يمكن رفض هذه الخطة الطموحة والمغرية؟

يأتى بعد ذلك الجزء الأكاديمى من الخطة، وهنا عاد أبى إلى الوعد الذى قطعه على نفسه بأن يعمل على تحقيق إنجازى لأكثر من دكتوراه عوضًا عن تلك التى خسرها بمرض التراخوما فى شبابه.
قال لى: «تذهب بعد التدريب العملى إلى جامعة هارفارد للحصول على الماجستير والدكتوراه فى الإدارة والبنوك، ثم تعود إلى إنجلترا للحصول على دكتوراه فى الاقتصاد من جامعة لندن London School of Economics «وبعدها يا بطل تكون جاهزا للعمل ومن ثَمَّ الزواج». «عمرك الآن لم يكمل 20 ربيعا، ثمان إلى عشر سنوات أخرى توصلك إلى العمر الذى تزوجت أنا فيه والدتك». «بناء المستقبل يجب أن يرتكز على أولويات واضحة، التدريب والتعليم فى مقدمتها، وكل شيء آخر بما فيه الحب والزواج يمكن تأجيله إلى موعد لاحق».
الحل المرحلى

وصلت أخيرًا إلى حل مرحلى، فلأنطلق إلى أوروبا للتدريب سنة أو سنتين، تكون صفاء قد أنهت دراستها الجامعية أثناءها وبدأت تعمل، ونعيد تقييم الموقف عندئذٍ، ونعود لمناقشة الوالد، وقد كان. أبلغت الوالد أنى جاهز للإقلاع فى خطة التدريب. ذهبت وحدى للقاء والدة صفاء، وأخبرتها بمشاعرى ومحبتى لابنتها وبرغبتى فى الزواج منها، وقلت لها إن العائلة تريدنى أن أنتظر لأتمم دراستى، وإنى لا أستطيع أن أطلب منها الانتظار دون أجل محدد، ولذلك فإنى أطلب منها الانتظار لمدة سنة إلى حين حصول صفاء على البكالوريوس. كانت أم صفاء حانية متفهمة، وقالت لى: أكمل يا بنى تعليمك، وعندما تكون جاهزا يتمم الله بخير إن شاء الله.
التجربة السويسرية

تعرفت فى فندق العائلة على بعض الشباب السويسريين الذين أبدوا اهتماما كبيرًا بى، وبفلسطين، وبمناقشة «الإسلام» معى. لم أرتح لهم كثيرًا، ولكنهم ألحوا فى دعوتى إلى مقر لهم على جبل عال مطل على مونترو القريبة من فيفيه، وفى قرية اسمها كو. قبلت دعوتهم لقضاء عطلة نهاية الأسبوع فى مقر جمعيتهم التى قالوا إن اسمها جمعية إعادة التسلح الخلقى (Réarmement morale). وإنها جمعية دولية، مقرها سويسرا تعمل على مساعدة الشعوب الفقيرة، وعلى نشر الأخلاق الحميدة، وعدم التفرقة بين الأديان.
لم تمض ساعة على وصولى إلى كو، حتى بدأت حملة «التبشير والتثقيف»، وكأنهم وضعونى فى مصيدة، حيث لا يمكن مغادرة المكان إلا من خلال مصعد كهربائى خاص بهم. اكتشفت أنهم جماعة تبشيرية فى أقصى اليمين السياسى، كان كلامهم المهذب فى فيفيه عن تعاون الأديان كمينا لدعوتى إلى كو. ما إن وصلت حتى شنوا حملة قاسية على الدين الإسلامى والثقافة العربية.
كانت لغتى الفرنسية محدودة، وبالأخص فى المسائل اللاهوتية ومقارنة الأديان، وشعرت بالعجز عن الرد عليهم بالحجة والمنطق، اكتشفت أيضًا أننى لم أكن أعلم الشيء الكثير عن المسيحية ومقارنة الأديان بشكل عام، أو بتاريخ الأديان.
انطلقوا أيضًا فى حملتهم السياسية، وعرضوا عليّ فيلما من إعدادهم عن نيجيريا، حيث «الأشرار السود» يثيرون البغضاء ضد السيد الإنجليزى الأبيض الذى يحكم نيجيريا (..) رفضت الفيلم بكل جوارحى.
رفضوا السماح لى بمغادرة المقر قبل مساء الأحد للعودة إلى فيفيه. فى لحظات معينة أحسست أنى سجين سياسى، لا يعرف أحد مكانى وأننى سأبقى أسيرًا، فى قمة هذا الجبل. ما إن غادرت المكان، فى يوم ممطر بارد، وبدأت رحلة العودة إلى فيفيه، حتى أحسست بمعنى الحرية وبمعنى العبودية، هى فى الفكر أساسًا، وفى العقل والقلب وليست فقط فى الجسد وقيوده.
عرفت لاحقا أن الجمعية كانت ذراعًا للمخابرات الأمريكية، ومخابرات غربية أخرى، وظهر اسمها فيما نشر من معلومات عن هذه المخابرات فى الفترة التى أعقبت رئاسة ألان دالاس لهذه المخابرات.
والدى فى لندن

حضر والدى فى الأسبوع الأول من تموز (يولية)، وكنت قد أنهيت تدريبى قبلها بأيام قليلة، وبقيت أنتظره بفارع الصبر. استقبلته بلهفة فى المطار، واصطحبته إلى فندق فى ماربل آرش كان بنك ميدلاند قد حجزه له بناء على طلبه.
عدنا فى اليوم التالى لمناقشات حول خطة الوالد، وضرورة أن أستمر فى التدريب المصرفى حسب الخطة فى ألمانيا ثم فى إيطاليا، وأن كل شيء قد تم إعداده للمرحلة القادمة. وبدأت محاولًا إقناعه بتغيير الخطة، واستكمال دراسة الماجستير والدكتوراه فى الخريف التالى مباشرة. قادنا ذلك إلى التعبير عن رأيى فى مهنة البنوك. غضب الوالد لرفضى مهنة اختارها هو لنفسه أولًا، وقلت له ولكنى اخترت مهنتك الأولى وهى التعليم، أريد أن أصبح أستاذًا جامعيًّا، وأنت قضيت الجزء الأكبر من حياتك فى التعليم، كما أن هذه المهنة ستقربنى من حلمك التاريخى لدورى المحتمل فى العمل السياسى الفلسطينى الموجه نحو تحرير فلسطين. احتدت المناقشة، واضطررت للقول إنى كرهت العمل المصرفى ولم أعد راغبًا فى ممارسته يومًا واحدًا، رغم أنى بذلت كل جهدى فى تعلمه.
تحولت المناقشة إلى موضوعات سياسية عاصفة حول فلسطين، وتحريرها. ووجدت نفسى أناقشه من منطلق الأيديولوجيين، أن الالتزام بفلسطين ليس أيديولوجية، وإنما يحتاج المناضل للفكر التقدمى والأيديولوجية الاشتراكية، ولمفهوم واضح حول العدالة والديمقراطية، إلى جانب إيمانه بقضيته العادلة. ذهل أبى من هذا المنطق الجديد وارتدادى عما كنت مؤمنًا به من قبل، وهو أن تحرير فلسطين واجب قومى وأن تجمع الناس حوله يزداد صعوبة بتبنى أيديولوجيات مختلفة وبالضرورة متصارعة.
انسقت فى صراع أحمق مع والدى ورائدى ومثلى الأعلى. تطورت المناقشة إلى جدال عقيم. كان من حقى أن أختار المهنة التى أريد، وربما كان أبى مبالغا فى التخطيط لما اعتقد أنه فى صالحى، ولكنى كنت مخطئًا فى الانسياق إلى صراع معه على كل صغيرة وكبيرة، وكأنما المطلوب هو إثبات شخصيتى المستقلة وحريتى الكاملة فى رفض مقولاته. اختلفنا حول الاقتصاد والثقافة والعائلة والعروبة، حول كل شيء، ووصلنا إلى الخلاف حول زواجى أو خطبتى الرسمية على الأقل، ولم تكن هناك نقطة التقاء واحدة.
توقفت المواجهة الفكرية، وتحولت إلى أزمة عاطفية حقيقية! بكى والدى، وبكيت كثيرا، وبدأت أخشى على قلبه العليل من أزمة صحية خطيرة.
مضت الأيام ثقيلة، صعبة دون تراجع منى أو منه، ولو قيد أنملة.
ليلة صعبة

فى صباح يوم أعقب ليلة من الليالى الصعبة، غادر أبى الفندق وحده ليسير فى حديقة هايد بارك بضع ساعات، عاد بعدها بقراره الحاسم، قال لى: «لقد حاولت نصحك يا بنى، وتعليمك طيلة عمرك. قدمت لك النصيحة الخالصة، وقد استمعت أنت لها دائما، وحاولت جهدك تنفيذها بتفوق وامتياز. لن تجد يا بنى من يقدم لك النصيحة الخالصة التى لا تبتغى إلا مساعدتك، تعرف يا بنى أن كثيرين يبغون نصيحتى ويسعون لها، وإننى فى موقعى اليوم لأن آرائى وأفكارى والحكمة التى اكتسبتها من السنين تُشترى بثمن غال، ولكنك يا بنى قررت أن تستقل عنى وعن نصائحى، وأن تضرب بها عرض الحائط. لا بأس، أنت حر، وهذه هى حياتك، وقد أكملت الواحد والعشرين من عمرك. لن أنصحك يا بنى من الآن فصاعدًا، ولا تطلب النصيحة منى أبدًا، سأنسحب من حياتك تمامًا. قرر ما تريد وافعل ما تشاء فعله، فلن أتدخل، ولن أفرض عليك شيئًا. لن تسمع منى أبدًا». واستمر قائلًا بعد صمت ثقيل: «ولكنى أب مسئول، لا أتصرف بما يضر وطنى وعائلتى، وأنت ما زلت فى تقديرى، رغم كل ما سمعته منك هذا الأسبوع مما لا يرضينى ولا يتفق مع أفكارى، ثروة قومية لا يجوز تعطيلها بأى شكل عن استكمال استعدادها لخدمة فلسطين، بل وقيادتها فى الطريق الصحيح، ولذلك فإنى لن أتخلى عن تحمل كل أعبائك المالية، وسأعمل على إلحاقك بأفضل الجامعات فى أمريكا، وسأحول لك ما تحتاج إليه من أموال. لن أسألك أو أناقشك أو أقدم لك النصح بعد اليوم. تزوج إن شئت وافعل ما تريد، أنت وحدك تتحمل المسئولية، وحدك. أدعو الله أن يرشدك يا بنى إلى الطريق الصحيح، فأنت الآن مسئول، والله يعينك».
حاولت مناقشته فى قراره فرفض رفضا باتًّا. أعد العدة للسفر، وترك لى مالًا كافيًا، وغادر إلى عمله فى جدة.
بقيت يومًا فى لندن فى صدمة أذهلتنى، كنت غير قادر على التفكير، أصبت بأزمة عاطفية كبرى، وبتأنيب ضمير أرقنى وأتعبنى، وبالخوف من أن يؤثر ما حدث على صحة أبى، وأن أعيش بعدها عمرى كله أدفع بالندم ثمن هذا الأسبوع القاسى، وحماقتى فى مواجهة والدى مواجهة لم تترك للتفاهم مكانًا، كيف يمكننى أن أصلح هذه الغلطة الكبرى؟
إلى أمريكا

سافرت فى اليوم التالى إلى بيروت، والتقيت جدتى أم العبد للمرة الأخيرة قبل وفاتها، والتقيت أخوالى وخالاتى وعائلاتهم، ثم عدت إلى الإسكندرية، أفكر ليل نهار فيما فعلت، وفى نتائجه، وفى كيفية إصلاحه وتفادى نتائجه السلبية. أصبحت الآن راشدًا مستقلًّا وعليّ أن أتخذ القرارات وأن أتحمل نتائجها، وعليّ مصالحة الوالد وإرضائه.
التقيت بصفاء، وشكوت لها همومى وقصصت عليها ما حدث مع والدى. هدأت من روعى وكفكفت دموعى وشاركتنى همومى كلها، ولكنها كانت واضحة جدًّا فى مسألة زواجنا، قالت: «لن نتزوج إلا برضا والدك، لم ولن أغير رأيى، وسوف أنتظرك حتى آخر العمر إلى أن تحصل على رضاه.. اذهب إلى أمريكا، إلى الجامعة التى قبلتك، أما أنا فقد قدمت طلبًا للعمل فى بنك الإسكندرية ولدى موافقة مبدئية من البنك، لا تنشغل بأمرى فسوف أتكفل أنا بعائلتى وضغوطها».
قررت الذهاب بأسرع ما يمكن لأمريكا لاستئناف دراستى دون أدنى تأخير. انطلق والدى ينفذ ما التزم به، فقد أبلغنى عن طريق الوالدة أنه استطاع الحصول على موافقة من مدرسة وارتون بجامعة بنسلفانيا بمعاونة مديرى البنوك الأمريكية من أصدقائه للالتحاق بدراسة الماجستير فى أيلول (سبتمبر) 1959، وأن القبول كان مشروطًا بحصولى على علامات لا تقل عن جيد جدًّا +B فى كل الموضوعات فى الفصل الأول، وأنه قام بتحويل قيمة أقساط السنة الجامعية الأولى.
كنت قد أخبرته عن قبول جامعة شيكاغو، والمنحة التى حصلت عليها منهم، وكان القبول والمنحة غير مشروطين، ولكنى صممت على المضى فى خطة مصالحته، بقبول العرض المشروط الذى حصل عليه، والاعتذار لجامعة شيكاغو. كنت أريد البدء فورا بدراسة علم الإدارة واقتصاديات الأعمال، ولكنى قررت إرضاءً له أن أدرس الماجستير فى التمويل وإدارة البنوك، سيرًا على خطاه. أبلغت ذلك كله للوالدة، وكانت هى التى تنقل لى موقف والدى الذى عاد إلى عمله فى السعودية، أما أبى فقد أوقف الاتصال المباشر بى تمامًا، وترك ذلك غصة فى قلبى وقلقًا وحزنًا.
اقرأ أيضا:
مذكرات نبيل شعث «حياتى.. من النكبة إلى الثورة».. فى ظلال يافا «بلد الغريب»
مذكرات نبيل شعث «حياتى.. من النكبة إلى الثورة» (2 6): على ضفاف الإسكندرية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.