• خالد جلال يواصل التنقيب عن التراث رغم صخب أغانى «الهلس» أهم ما يميز المخرج خالد جلال أنه يدخل بأعماله مناطق غير مأهولة هجرها أهل الإبداع وانشغلوا بما هو متاح ومكرر، أو ما يمنحهم العائد أو الربح التجارى السريع. الفن عند خالد جلال له توظيف آخر وشكل يمنحك قدرا من الإشباع الفنى الذى يحتاج إليه العقل الإنسانى، فالشخص الطبيعى يبحث دائما عن كل ما هو مقنع ويتناسب مع هويتنا الفنية التى أثراها كبار فنانينا عبر أجيال وأجيال، ومما لاشك فيه أن الغناء المصرى فى السنوات الأخيرة تحديدا تعرض لأسوأ موجة عبر تاريخه متمثلة فى أغانى المهرجانات وغيرها من الأغانى التى أطلق عليه الشعبى تجاوزا، فأصبحنا نسمع عن أسماء من نوعية شحتة وأوكا وأورتيجا ومانديلا، أسماء لا يليق أن تنتمى للغناء المصرى، ولكن دائما وسط العتمة يخرج نور من آخر النفق يشعرك بأن هناك أملا، منذ أيام كان شعاع الأمل هو «غنا من مصر» عمل جيد للمبدع خالد جلال أراد من خلاله أن يقول إن المغنى المصرى لسه بخير، وإذا كان هناك أوكا وأورتيجا وشحتة، فهناك جيل مصرى بحق وحقيقى، يقدم كل ما هو محترم وهادف. «غنا من مصر» يقدم نوعا من الغناء، كما قال خالد جلال خلال تقديمه للعرض «لا يقدمه إلا أهله سواء فى بحرى أو فى صعيد مصر ألا وهو الغناء الشعبى الأصيل الذى قدمه محمد طه وخضرة محمد خضر وياسين التهامى وجملات شيحة وفاطمة سرحان ومحمد أبودراع وإبراهيم خميس وزين محمود، وهذا اللون الغنائى أصبح يعانى من التجاهل»، وفى أمس الحاجة لمن يعيده إلى الصورة ويستنهض جيلا جديدا من الأسماء تحمل الريادة بعد رحيل الرواد الأوائل أو تقدم العمر بهم، وبالتالى لم يعد لديهم القدرة على الغناء. «غناء من مصر» هو حالة غنائية تعيدك لهذا الزمن الجميل، المكان قاعة مركز الإبداع، الديكور مناسب لجو الغناء فهو عبارة عن شكل يشبه الفراشة الشعبية، التى نراها فى الموالد والأفراح الشعبية، التى تقام فى صعيد وريف مصر. نجوم العمل ثلاثة أصوات من أبناء الدفعة الثانية والثالثة لمركز الإبداع، وهو أول عمل خاص بخريجى قسم الغناء والثلاثى هم: ماهر محمود من الدفعة الثالثة ومصطفى سامى ورباب ناجى من الدفعة الثانية، وقام بالتدريب على الغناء المايسترو محمد باهر، والذى استطاع أن يلون تلك الأصوات بنفس الأداء الشعبى بكل مواصفاته وبنفس أداء الرواد الأوائل مع احتفاظ كل صوت منهم بشخصيته الغنائية، والفرقة المصاحبة كلها من الآلات الشعبية الربابة والكولة والناى والمزمار والرق والطبلة والصاجات. ومن الوضح أن العازفين من محترفى هذا اللون الغنائى، رباب غنت أعمال سيدة يا سيدة وبحب بلدى وحاجة يا حاجة، وغنى مصطفى سامى فى مدرح الرسول الكريم ثم قدم ساعة معاك فى قدم ماهر أعمال يا جميل وقمرا سيدنا النبى وغنى الثلاثى طه النبى، كما أدت الفرقة الموسيقية ارتجالات فيما بينها فى حوار راقٍ بين الكولة والربابة والمزمار والصاجات يؤكد قدرتهم على الأداء العالى، وأكثر ما يميز أى عازف هو ذلك الارتجال لأنه فى الغالب يكون غير متفق عليه ونابع من اللحظة والحالة التى يعيشها العازف أى انها من مواليد تلك الساعة لذلك من الممكن أن تحضر نفس العرض فى نفس المكان وتجد الموسيقى المقدمة مختلفة تماما، أيضا المداحون والمطربون الشعبيون الحقيقيون يجدهم يتبعون نفس الأسلوب عند الغناء فهم يستخدمون الأبيات الشعرية المخزنة فى وجدانهم وذاكراتهم حسب الحالة، التى هم عليها، وهذا الذى يجعلك تفرق بين مطرب شعبى أصيل ولد فى أحضان الموالد والأفراح الشعبية فى صعيد مصر وبين آخر يعمل بمنطق السبوبة من أجل لقمة العيش. غناء من مصر هو إحياء للون شعبى غنائى بدأ يندثر، والجميل أنه هذه المرة يقدم من فنانين ليسوا من أهل هذا الفن، وهو ما يؤكد أن مركز الإبداع هو مصنع لنجوم خاصة أنه قدم للمسرح والدراما والسينما أسماء هم الآن فى مصاف النجوم، وهم أكثر مهنية من آخرين، لأنهم يتمتعون بخلفية ثقافية، كما أنهم درسوا كل أشكال الفنون الإلقاء والموسيقى والأداء المسرحى والديكور وتصميم الملابس أى أنه فنان شامل مهيئ للعمل الفنى بشكل جاد. أهمية غنا للوطن أنه أول مشروع كامل لخريجى فصل الغناء بالمركز، وهو ما يؤكد أن خالد جلال سوف يواصل الغوص فى التراث لكى يمنحنا قدرا آخر من الأعمال التى خذلتنا أجهزة وكيانات أخرى تتبع الدولة، ولم تقدمها، وبالتالى على خالد جلال أن يستعين بالأعمال التى تركها زكريا الحجاوى فى أرشيف الإذاعة المصرية، والتى تمثل كنوزا مهملة تستحق أن نعيد تقديمها للناس. الشىء الجميل أن مركز الإبداع استطاع عبر مشواره منذ 2002 وحتى الآن أن يكون قاعدة جماهيرية من الشباب، وهم الأمل، خاصة أن هناك من يروج على أن الشباب يبحث عن كل ما هو حديث من موسيقى صاخبة، الجمهور فى مركز الابداع كسر هذه النظريه لانه من الشباب بنسبة 90% وهو يعطى مدلولا ومؤشرا جيدا على أن المركز ساحة خصبة لمنح الشباب أكبر قدر من الثقافة الحقيقية، والجميل أيضا أن خالد جلال رغم أعبائه الوظيفية الأخرى، لكنه حريص أن يكون وسط هؤلاء الشباب بشكل يومى وحريص أن يقدم تجارب مختلفة، هو فنان لا يستسهل بل يبحث وينقب دون ملل لذلك هو مصدر للبهجة لمئات الشباب.