تعدد الزوجات إحدى المسائل التى كان لصوت الغرب المتعصب، ودعايته المسمومة أثر فى توجيه الأفكار إلى نقدها، حتى حاول فريق من أبناء المسلمين فى فترات متعاقبة ولا يزالون يحاولون وضع تشريع لها يقيد من إطلاقها بما لم يقيده الله به. وقد وقعت هذه المسألة بين نص تشريعى، وحالات اجتماعية، وقد تجاذبت كلا منهما الأفهام والتقديرات. فبينما نرى بعض الناظرين فى النص الشرعى يقرر أن الأصل فى تعدد الزوجات هو الحظر، أو لا يباح إلا لضرورة ملجئة نرى بعضا آخر يقرر أن الأصل هو الإباحة، وأنه لا يحظر إلا إذا خيف أن يغلب خيره شره. وبينما نرى بعض الباحثين الاجتماعيين يقرر كما أسلفنا أن تعدد الزوجات جريمة اجتماعية تقع على الأسرة والأمة فيجب الحد منها بقدر المستطاع، نرى آخر يقرر أن هذا إسراف فى تقرير الواقع، وتحكيم لحالات شاذة لا يصح أن تتخذ أساسا للحد من تشريع له من الآثار الطيبة فى الحياة الخلقية والاجتماعية معا ما يربو كثيرا عن تلك الحالات الشاذة. هذا هو وضع المسألة، وهو يقتضينا عرض الموضوع من ناحيتيه: الشرعية والاجتماعية، وأن نزن جانبى التفكير فى كل من الناحيتين بميزان العدل الذى طلبه الله فى كتابه وقضى به فى خلقه، وبذلك يجىء الكلام فى فصلين: أولهما: تعدد الزوجات فى ظل النصوص الشرعية. ثانيهما: التعدد فى ظل الحالات الاجتماعية الواقعة. التعدد شرعة قديمة: مما لا شك فيه أن القرآن جاء بمشروعية تعدد الزوجات، ونراه يقول فى الآية الثالثة من سورة النساء: «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِى الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا» (النساء: 3). وقد جاء متصلا بها الآية 129 من السورة نفسها:«وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا» (النساء: 129). والإسلام لم يكن فى شرع تعدد الزوجات، ولا فى شرع أصل الزواج مبتكرا لشىء لم يكن معروفا من قبل، وهذا شأنه فى كثير من وجوه المعاملات والارتباطات البشرية التى تقضى بها طبيعة الاجتماع، وإنما كان مقررا ما تقتضيه الطبيعة من ذلك معدلا فيها بما يرى من جهات التهذيب التى تكفل للطبيعة الوقوف فى الحد الوسط، وتقيها شر الانحراف والميل، وتحفظ للاجتماع خير مقتضيات هذه الطبيعة. عرف الزواج فى طبيعة البشر الأولى، وعرف كذلك تعدد الزوجات فى الحقب الماضية، وكان له فى كثير من الشرائع السماوية وجود واسع، وامتداد إلى عدد كثير، كما يحدثنا التاريخ عن إبراهيم، ويعقوب، وداود، وسليمان، وغيرهم من الأنبياء والمرسلين. وكما يحدثنا عن العرب وغيرهم من أكثر بلاد المعمورة حتى عند أهل أوروبا، فقد كان مباحا عندهم إلى عهد شرلمان الذى كان متزوجا بأكثر من واحدة، ثم أشار القساوسة فى ذلك الوقت على المتزوجين بأكثر من واحدة أن يختاروا لهم واحدة من بينهن، يطلق عليها «زوجة» ويطلق على غيرها اسم «خدن». هذه هى تعليلات تلك الظاهرة الاجتماعية فيما يرى العلماء والباحثون، وهى تعليلات يرسمها الواقع المحس بحروف واضحة على صفحة الوجود، وبها استقر تعدد الزوجات شأنا اجتماعيا قديما، واستمر إلى الإسلام فلم تنقض شريعة الإسلام فيه ما تقضى به الطبيعة وهو أصل التعدد، وإنما هذبته من ناحيتين: وقفت به عند عدد يكفل حاجة الرجل على وجه لا يؤثر فيه طروء الفترات التى تعدم فيها قابلية المرأة. وأوجبت على الرجل أن يعدل فى مطالب الحياة بين هذه الزوجات حتى يكون أعون على بقاء أصل الهدوء والاطمئنان، وأبعد عن الظلم والميل والانحراف. وهذا قدر اتفقت عليه النصوص الشرعية وأجمع عليه فقهاء الشريعة، واقرأ قوله تعالى: «مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ» (النساء: 3). وقوله: «فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً» (النساء: 3) وقوله: «فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ» (النساء: 129). وقد يكون من أعجب ما استنبط من هذه الآيات أنها تدل على أن التعدد غير مشروع، بحجة أن العدل جعل شرطا فيه بمقتضى الآية الأولى، وأنبأت الآية الثانية أن العدل غير مستطاع، وبذلك حال معنى الآيتين: يباح التعدد بشرط العدل، والعدل غير مستطاع فلا إباحة للتعدد. وواضح أن هذا عبث بآيات الله، وتحريف لها عن مواضعها، فما كان الله ليرشد إلى تزوج العدد من النساء عند الخوف من ظلم اليتامى، ويضع العدل بين الزوجات شرطا فى التعدد بأسلوب يدل على استطاعته والقدرة عليه، ثم يعود وينفى استطاعته والقدرة عليه.